حلاوة الدنيا
نحن لا نجيد فن التعامل مع المرحلة العمرية لكبار السن أو ما يُعرف بأمراض الشيخوخة والتى تعانى أسرة المريض خلال تلك الفترة ضغوط نفسية كبيرة ومع الجرى الدائم وراء المستشفيات وكتابة روشتات جديدة وشنط أدوية هنا وهناك فى كل ركن من أركان المنزل ومع هذا لا تتوقف عجلة تكالب الأمراض على الجسد الواهن للمريض والمستسلم دون مقاومة تذكر وتسوء حالته النفسية خلال تلك الفترة العصيبة إلا أن يصل إلى حالة مابين الحياة والموت ، هنا تكون الحالة فوق قدرات وطاقة الأسرة بالإضافة للأسف إلى ظروف الحياة التى تحول دون تفرغ الأبناء التام لحالة الوالد أو الوالدة التى تحتاج لعناية وملازمة ليل نهار ، هنا تبدأ مأساة البحث عن الشخص المناسب التى تتوافر فيه صفات الأمانة والطيبة والهدوء والصبر وذكاء التعامل مع متطلبات الحالة هرباً من أسعارالتمريض والذى يتعامل مع المرضى فى المنازل بنظام شفت 6 ساعات قد يصل إلى 300 جنيه ولذى تلجأ الأسر إلى السيدات التى تساعد فى نظافة البيوت سواء عن طريق معارف أو مكاتب وللأسف الكثير منهم لا يصلح .
وكانت "صفاء" التى تجاوزت الأربعين بقليل نجحت فى أن تعى وتستوعب كيفية التعامل مع المرضى من كبار السن ، هى واحدة من السيدات المعيلات التى تجاوزت نسبتهم 40% فى مصر ، أى هى مصدر الدخل الوحيد للأسرة وقد ساقتنى الأقدار أن أرى فيها كيف يتجسد معنى الكفاح والتعب و الشقى لكسب لقمة العيش ، سيدة جدعة بمعنى الكلمة بدأت حكايتها بعد أن تَخطى أبنها الوحيد سنواته الأولى وتبدل حال الزوج لأسباب عديدة وأصبح يعمل أيام ويبطل عشرات الأيام بدون مورد رزق يستطيع أن يصرف به على أسرته وكان عليهم أن يعيشوا اليوم بيومه أى مع كل طلعة نهار لا تعلم هذه الأسرة من أين وكيف تدبر فطارها وغداءها وعشاءها ؟!!! وفكرت صفاء التى كانت حينها لم تتجاوز العشرين أن تخرج لسوق العمل ولأنها لم تتعلم لم يكن أمامها غير العمل فى تنظيف البيوت ومن هنا بدأت شيل حمل أعباء الأسرة بنفس راضية غير ناقمة على حظها الذى أوقعها بزوج أخذ لقب الرجولة أسماً فى البطاقة فقط ، ولأنها صادقة مع نفسها وتريد أن يكون رزقها حلال نتيجة تعب وجهد بجد فلم تلجأ للفهلوة فى تنفيذ مهامها ولم توهم الأخرين أنها "أم العريف" واستمدت من حبها للحياة وقوة إرادتها الطاقة الدائمة للتعلم حتى فى المهام التى نعتقد أنها سهلة فهى لا تعرف مصطلح "كلشنكان " مثل الأخرين.
وهذا ما جعلها لا تشعر بضآلة الشأن أمام من تخدمهم ، لثقتها فى قدرتها وأمانتها والتى فرضت على الأخرين أحترامها وكانت أحياناً تقسوا على نفسها وتذهب لبيتها بعد انتهاء تنظيف أحد البيوت مبللة الثياب تماماً إلا من الثوب الخارجى لا فرق بين أيام الشتاء القارس أو نار الصيف الحارق ، لأنها لا تحمل كيساً لغيار تستبدله خوفاً من أن تكون موضع شبهه وتساءل من أصحاب البيت عما بداخل الكيس ، هى فعلاً تؤثرك بإعتزازها بكرامتها التى تصل لعنان السماء فتقول دائماً أنا بشتغل على ميه بيضا وعلى استعداد تام أن تترك العمل فى ثوانى لو شمت بريحة استهانه بها .... وديمأ تُردد أنا ست بـ 100 راجل ، سريعة الإنصهار وعشرية وقد نفضت غبار الكسل منذ سنوات طويلة وتُعتبر أن من لا يعمل ويكسب قوته بعرق جبينه هى خيبة قوية .
أنها فعلا سبع صنايع ولكن البخت ليس ضائع ، لا تهدأ أبداً بحديثها المستمر وفمها الذى لا يعرف السكون إلا فى الساعات القليلة التى تخطفها للنوم ، وصوتها الذى يجلل فى كل مكان منذ دخولها منزل أحدى السيدات المسنات أصبحت على علم بكل تفاصيله فى دقائق معدودة هى تعمل بقلبها قبل عقلها وبحب للسيدة التى ترعاها وحب لأصحاب المكان ...... وهكذا مرت السنوات استطاعت صفاء خلال رحلتها أن ترفع من مستوى أسرتها من شقة فى بيت عائلة مبنى بالطوب اللبن فى أحد الأحياء الشعبية القديمة إلى أن تم هدم البيت وكان على كل ساكن أن يبنى شقته بنفسه ، فماذا فعلت صفاء ؟!!! أقترضت من طوب الأرض وحَملت نفسها بأقساط لا حصر لها لتحقق حلمها بشقة مثل أقاربها وجيرانها فطموحها المشروع فى حياة فوق الأرض وليس تحتها ، ولكى تستطيع أن تسدد الأقساط التى وصلت إلى آلاف الجنيهات كان عليها أن تواصل العمل ليل نهار ... ممكن يكون عادى أن نسمع عن رجل بيعمل فى شغلتين ولكن أن ترى سيدة تطبق ورديتن فى الـ 24 ساعة أى لا وقت عندها للنوم هكذا كانت حياة صفاء ... الكفاح جميل ونرى جماله فى عيون الشقيانين أمثالها التى تجد متعة وسعادة لا حصر لها وهى تحكى فى نهاية يومها و تعدد إنها كانت تنظف بيت فلانه ... وبعدين خلصت مطبخ فلانه ... وتوجهت للسوق لتشترى احتياجات لعمل عزومة فى بيت فلان ... وبعد ان تنتهى تشطب المطبخ لكى تتركه نظيفاً عند أهل البيت ... ثم تذهب سريعاً لمرافقة هذه السيدة لتبيت معها فى فترة الليل وقد لا تتذوق النوم لدقيقة واحدة لأن كبير السن أحياناً قد يظل مستيقظاً قد تصل الـ 24 ساعة نتيجة بعض الأدوية التى يتناولها ... هنا تجد صفاء بكام فنجان قهوة على شاى تظل مصهلله ولا تكتفى بذلك بل عندها الصبر والحلم لتحايل من ترافقها فى المآكل والمشرب بالمناغشة والتدليل متناسية تعب اليوم الحافل بالأعمال وبحنان تُردد وتقول كلى وأشربى يا أمى وتملىء المكان حولها بهجة ومرح لتخرج الجو الكئيب وترفع الروح المعنوية للمريضة التى تحتاج للعطف والصبر ...
ولأنها بتشغل دماغها الـ 24 ساعة فى اليوم وفى حالة نشاط وذكاء دائم ، لمحت فى لحظة طريقة ضرب الحقن وتعليق المحاليل لكبار السن وأصبحت تجيدها بأفضل ما يكون فهى بالفعل تتعامل مع كبار السن وكأنها أبنتهم وأكثر ..... هى فعلا نموذج لا يدعو للرثاء على حملها الثقيل ولكن هى تُحقق تطلعتها المشروعة فى سكن وشقة كاملة من مجاميعه .. لحلم تعليم ابنها وتوفير مصروفات الجامعة بل وزواجه فيما بعد .... وأصبحت صفاء صاحبة دخل يُمكنها من العيش بمستوى ليس بالقليل ... لم تتوقف طويلاً عما قدم لها زوجها , لم تنظر للسيدات حولها ناقمة على شقاءها بل منتهى طموحها وسعادتها الشخصية تحققه فى شراء ثياب جديدة متشبهه بطريقة ملابس ممثلة شهيرة فى أحد أدوراها أو اقتناءها هاتف محمول أندرويد وهى التى لا تجيد الكتابة والقراءة ولكنها تميز الأسماء عن طريق حفظ شكل حروف الكلام والأرقام والتى غالباً ما تُمكنها من طلب الشخص المطلوب ...... وقد عَلمتنا صفاء درساً لا ينسى
أن علينا أن نتقبل بنفس راضية مُر الدنيا ......
وعلينا أن نعافر فيها لنتذوق حلاوتها ..................
الهام المليجى