الوجه الآخر
سمع ابراهيم بائعة الجرايد وهى تنادى ، وبخطوات لاهثه ترك كوب الشاى قبل أن يكمله، متجهاً إلى بلكونة المنزل ، وأحس برعشة تلفحه ... لم تحميه الطاقية والكوفية والروب والشراب .... ولغى فكرة أن يقرأ الجرايد مع كوب الشاى فى البلكونة ، ودخل سريعاً لغرفته وفتح ستارة الشباك وجلس على الكرسى وثنى ساقيه تحته ولبس نظارة القراءة كما تعود كل يوم فى الصباح الباكر منذ خروجه للمعاش منذ سنوات ولم يتبقى له من متع الحياة غير هذه اللحظات الصباحية التى يقضيها مع نفسه وسط جرائده ..... فقد أكمل رسالته نحو أولاده الأربعة وتزوجوا وذهب كلٍ إلى حياته الخاصة ، ولم يستطع إبراهيم أن يثنى أولاده عن رغبتهم بالرحيل وإختيار مكان آخر للعيش فيه بعد أن قضوا سنواتهم الأولى معه فى البيت الذى بناه خصيصاً لهم ليكونوا جميعاً بجواره عند كبره ولم يتبقى له غير أصغرهم مؤقتاً إلى أن تسمح حالته المادية وسيفعل كما فعل إخوته ..... لم يتحقق حلم إبراهيم وانفرط العقد منه وتناثرت حباته فى كل مكان ولم يستطع أن يلملم شتات أولاده......
ومن يومها أحاط نفسه داخل سياج غير عابىء بمن حوله مع شعور بعدم الرضا لمشوار حياته ، تاركاً نفسه لأفكاره تتمايل به إلى أن وصل إلى حالة من الإكتئاب وعدم الرغبة فى التحدث مع أحد ...... وهاهى الشمس تطل بإستحياء من الشباك ... ليُعدل إبراهيم قعدته ناحيتها لتملىء وجهه وجسده بالكامل لعلها تذيب جليد المشاعر والجسد معاً وتنهى حالة التصحر العاطفى والتى لا يعرف متى تسلل له هذا الشعور ، فأصبح كارهاً العيشه التى فرضت عليه ............ فزواج تقليدى مثل غالبية الناس بعد أن فشل بالإرتباط بمن أحبها والتى خيم خيالها على علاقته بزوجته .... ومر بأوقات ضعف كثيرة كادت تنهى زواجه ولكن دوامة العيشة ووصول أبنائه جعلته يجمد مشاعره ويتناسها ويغير بوصلة حلمه إلى تعليم وتربية أولاده وتأمين مستقبلهم .. ولم يسىء معاملة زوجته زينب ولكن بنى حائط صد سميك بينه وبينها وتظاهر دائماً بغير ذلك .... وأنفض مولد الولاد إلا من زيارات معدودة فى المناسبات والأعياد يتجمع الجميع .... ولكن هيهات أن تخرج إبراهيم من عزلته فوجوده فى القعده بجسده فقط ولكن روحه هائمة فى مكان وزمان أخر فى حياة كان يتمنى أن يعيشها ....وينزوى إبراهيم طوال الوقت بعيداً عن ضوضاء الأحفاد ويكون الإهتمام الأكبر دائماً والشغل الشاغل بقدوم حفيد جديد وتكون كل الأعين والقلوب متجه له ..... إلى أن ينتبه الجميع أن الأب موجود ....... ويكون نصيبه ثوانى معدودة من وقت ولادته ..... وحوار ممل لا يتغير أنت عامل أيه تمام ؟ بتاخد الدوا فى ميعاده ؟ خلى بالك على نفسك !!!!!!! ويتسآل إبراهيم هو أنا فين منهم !!! طب دنا أيامى رايحه ... زى ما ناس كتيير رايحه ... وناس كتيير جايه وديه سنة الحياه ... بس طيب يلحقوا يقعدوا مع اللى فنى عمره عليهم ! .....
ولكن ابراهيم لا يسمع صوت غير نفسه ولا يريد زى ناس كتير
سماع الحقيقة ورؤية أوهامهم تتحطم أمامهم ... وحينما يدركوا ذلك لا يستطيعون أن يغيروا بوصلة حياتهم بحلم آخر يعيشوا ويسعدوا من أجله !!!
• وإذ بخطوات زوجته زينب تقترب وتجلس أمامه وبعد لحظات من السكون القاتل تبدأ الكلام كالعادة أنت صحيت بدرى
إبراهيم : زى كل يوم ! أيه الجديد
زينب : يعنى فطرت ولا تفطر معايا
إبراهيم : عايزه تعملى فطار ماشى مش عايزه زى ماتحبى ... مش فارقه
زينب : مالك مفيش حاجه عجباك ومش طايق روحك ليه .....؟؟
إبراهيم : يصمت ويتظاهر بالإهتمام بما يقرأ
زينب : انت عارف أن ابنك راجع من العمره هو ومراته النهارده ... وإن شاء الله هعمل حسابهم على الغدا .... وتكمل هو أنا خيال قدامك ماترد ؟
إبراهيم : يشوح بيده رافضاً إكمال الحديث معها ...
زينب : إنت بتشوحلى ؟!
إبراهيم : عايزانى أقولك أيه ... مش فارقة اللى يجى واللى يروح ... أنا ضيعت عمرى عليهم وفى الآخر قاعد لوحدى ... أنا ماعشتش الحياة اللى أنا عاوزها ...
زينب : بصوت أكثر حدة هو جوازك منى حد فرضه عليك ولا حد ضربك على أيديك وقالك لازم تتجوزها!!!
إبراهيم : محاولاً إنهاء كلامه الواحد عايش اليومين اللى فاضلين له بالطول وبالعرض
وخرجت زينب وهى تستكشف وجه أخر لزوجها ... وكأنه خلع القناع ليظهر ما ببطنه طوال السنوات .... وبرغم إحساسها وعلمها كانت تقول دائماً زى ما أنا مش فتاة أحلامك .. أنت كمان مش فتى أحلامى بس فرق كبير بينى وبينك أنا حاولت إسعاد الكل وحاولت أعطى ... بدون انتظار الكثير ... وكان يسعدنى القليل وأقل القليل ليستمر عطائى ، وأنا كمان عشت للولاد زيك ...... وتركته لتفرغ شحنة الغضب وتلهى نفسها بإعداد الغدا ............... وبرغم حزنها على حال زوجها ... تغلبت عليها طيبة قلبها وصفاء روحها وفكرت أن تخرجه من حالته النفسية و تسعده بصينية "رقاق" على الغدا ... وسمعت ضوضاء على السلم فأدركت أن ابنها وصل ففتحت الباب لتستقبله ، لترى ابنها وزوجته محملين بشنط كتيره..... ليقترب منها ويقولها ... وحشتنى ياماما .... ديه مية زمزم .... إنتى عارفه مفيش حاجه هناك ممكن أشتريها ؟ فصدمت زينب من كل الشنط التى يحملها ولم يتذكر أمه غير بمية زمزم فنظرت له باستغراب يتملكها إحساس بالغيظ وبابتسامة باهتة ردت على الفور ... خدها ياحبيبى أنا وأبوك يامه شربنا منها ... وأغلقت الباب وهى تحدث نفسها هو احنا مستنيين حاجة من حد .... هو حد بيصرف علينا ... إحنا الحمد لله مستوريين ... بس لازم يكون فيه تقدير .... ده عيالك اتربوا عندى ... ولا خلاص دور الشغالة انتهى !!!
• ظل إبراهيم بغرفته طوال اليوم تاركاً الباب موارباً واقتربت منه زينب وهى متجه لغرفتها .... رأت الباب موارباً وقد أسدل الستار وصوت إذاعة القرآن الكريم خافتاً ... فأدركت أنه نام ................. وبعد أن غَفلت لفترة من الوقت أحست أن النهار قد ولى وبدأ الليل يخيم على الغرفة فخرجت منها ونظرت لغرفة إبراهيم وللَحظات تسمرت فى مكانها لترى أن الباب موارباً كما هو فوقفت أمامه يتملكها التردد وبعد تركيز سمعت صوت إذاعة القرآن أعلى وأعلى من المعتاد فقررت الدخول ....
وبخطوات بطيئة واهنة اقتربت والظلام أعطى الأحساس بالقبضة والقلق وأخذت تحدثه وهو ملقى على السرير .... إنت عليت صوت الراديو كده ليه ! وأحست برجفة شديدة وهى تقترب منه أكثر وأكثر هو أنت نايم لغاية دلوقتى ؟ ! وبصوت أكثر ضعفاً ورعباً أمسكت بيده ودقات قلبها تكاد تقف من الخوف وقعدت بجواره ..... الدنيا بقت ليل ....أصحى .... أنا عامله صينية "الرقاق" اللى بتحبها !!!!!!!!!!!!!
الهام المليجى