الكعب العالى
فى أحد هذه المناطق الشعبية فى رملة بولاق كانت تسكن "زينب" ذات الثامنة عشرعاما ، كبرى أخواتها الأربعة ، واحدة من المهمشين الذين تسربوا من التعليم فى المرحلة الإبتدائية ،الوالد قد هجر الأسرة منذ سنوات ولا يعلموا عنه شيئا ، ولكن لم يختلف الحال بوجود الأب من عدمه ، فالصغار هم أبناء الشارع ، فالشارع هو الذى يربى و يعلم هو المسكن والمأوى .أما الأم فهى كسيدات الحى . . فقسوة الحياة طبعت على الملامح والسلوك والطباع حتى يخيل إليك إنك أمام رجل وليست سيده .
لا تمتلك الأسرة شيئا فى الحياه غير العشة التى تأويهم و"نصبة شاى" على رصيف نفق بشارع السكة التجارية المؤدى إلى كوبرى إمبابة الحديدى والذى يعد ثانى أقدم كوبرى فى مصر ، والذى شيد فى عهد الخديوى عباس حلمى وبناه المهندس الفرنسى "دافيد ترامبلى" وهو أيضا من شيد برج إيفل بفرنسا .وهذه هى مصر التى عرفناها وكيف كانت ذات حضارة ومقام عال .
وتبدأ زينب يومها بالسير ما بين العشش لتمر من فتحه بسور النفق لا تتعدى مترا واحدا والوصول للرصيف المقابل عند نصبة الشاى ، وأنا لا أعرف لمن تقدم زينب الشاى ، فهذا طريق تمر به السيارات والميكروباصات مسرعة ،ويحيطها عدة ورش صغيرة على قد الحال ، تقريبا بلا عمل يذكر .وتقضى زينب وقتها تشاهد دنيا غير دنيتها لا يفصلها عنه سوى أمتار قليلة ، فهى ترى كورنيش النيل الذى يطل على ضفافه العديد من الفنادق والمولات والبنوك الكبرى ويجاورها أبراج النيل سيتى . . عالم لا تراه فى التليفزيون فهى لا تملكه ، ولكنها تشاهده أمامها يوميا لوجود جراج سيارات خلفها تابع لأبراج النيل سيتى ، وعندما يكتمل العدد بالجراج يضطر اصحاب السيارات على ترك سياراتهم امامها بجانب نصبة الشاى.
وتسبق زينب لهفة ورغبة فى رؤية لحظة خروج العاملين بالمبنى فهم ناس غير ناسها وأشكال والوان وملابس وسيارات ، وشيئا فشيئا اصبح هذا الوقت هو النور الساطع فى دنيا حالكة السواد فهى عيشة غير العيشة . حياة مليئة بالتناقض . . كيف يتلاحم ويتجاور هؤلاء . . بهؤلاء . . كيف يتجاور القمة بالقاع . . كيف يتجاور كورنيش النيل وما أدراك ما الكورنيش بأبراجه الشاهقة بالعشش الصفيح ، انت لا يمكن ان تشاهد هذا إلا فى مصر بلد العجائب .
وفى أحد الأيام بينما زينب تجلس على الرصيف عند نصبة الشاى رأت "رنا" التى التحقت بأحد البنوك الأجنبية فور تخرجها من الجامعة الأمريكية ، ولم تجد رنا مكان لسيارتها إلا أمام نصبة الشاى ، وما أن رأتها زينب تسمرت مكانها محملقة فى وجه رنا وكأنها تشاهد كائن من كوكب أخر ، ولكن رنا لم تلتفت لذلك بل لم ترى زينب من الأصل ، وظلت عيون زينب تلاحقها إلي أن دخلت أحد أبواب البرج ، ولم تتنبه زينب أن أمها أقتربت منها ونادت عليها . . يا زينب انت سرحانه فى أيه . . هو انت لسه بتفكرى فى العريس !!
ردت زينب : عريس أيه؟
قالت الأم : يابت ده مستنى نرد عليه . . هو انت هتلاقى أحسن منه . هزت زينب كتفيها باستخفاف وقالت : ده بلطجى يخرج من خناقة يدخل فى غيرها . . شوفتى أمبارح هو وشوية العيال لما اتخانقوا مع بتاع الأمن فى البرج عايزين منه إتاوة بالعافية.
قالت الأم : يابت انت مش عارفه أن من ساعة الثورة وهما بياخدو فلوس من الأمن عشان يحموا البرج من الحرامية .
قالت زينب : حرامية . . حرامية أيه يا أما . . دول هما الحرامية . . انت ناسية لما أشطوا المول أيام الثورة ، وخلوه يا حول الله على البلاط . . ده حتى حرقوه كله قبل ما يسيبوه .
قالت الأم : ياعبيطه مش هما دول دى ناس تانيه أكبر منهم . . هو أنا هجوزك لقتال قتله . . ده واد جدع بيعرف يجيب القرش إزاى . . بطلى خيبه !!
وتركت زينب أمها غير عابئة بكلامها فقد كانت تفكرفى عالم آخر . . عالم رنا ، ودخلت زينب العشة وتأملت نفسها امام المرآه المكسورة المعلقة على الحائط والتفتت يمينا ويسارا ، وفجأة جرت مسرعه خارج العشة وقامت بغسل وجهها عند الحنفية العمومية ، ورجعت تانى العشة أمام المرآه ، فلم تلاحظ أى تغيير . . . فأعادت الكره مرة أخرى لتقوم بغمر شعرها أسفل الحنفية لدقائق طويلة . . وعادت للعشة وقامت بتمشيط شعرها وتركته منسدل خلف ظهرها وقامت بخلع ملابسها "الرثة" وأخدت تدور حول نفسها وكأنها تتراقص امام المرآه ,
ولكن هيهات يازينب فلم تتغيرى ، فقد صبغ التراب والتلوث والشمس الحارقة على وجهك ، فلم يجدى معه غسل الوجه ولو مئات المرات .. خسارة لم تستطعى أن تنعمى ولو للحظات بعيدا عن بؤرة الأجرام وتجار ومتعاطى المخدرات والمعدمين ، أرادت أن تحاكى رنا ولوفى الخيال والأحلام ، إنك بنت زى كل البنات مع إختلاف مستوياتهم ، بس انت خارج الدائرة . . خارج العالم هى مش مسألة فقر . . هى الأمية والجهل وعدم الحصول على الحد الأدنى من العيشة الأدمية كناس طبيعيين لهم الحق فى العيش فى حياة كريمة مش مهم يكون فقير بس المهم يكون إنسان . وتملك زينب الحزن واليأس والألم وقالت لنفسها حتى الحلم كتير عليا وبدأت فى التثاؤب واستسلمت للنوم والهروب من الحياه .
وفى الصباح قالت الأم : قلت أيه يا بت . . ارد أقول إيه للعريس ؟؟.
قالت زينب " أى حاجة اللى عايزاه إعمليه" وذهبت لنصبة الشاى بنفس مكسوره فقد أدركت أنها واحدة من عالم آخر ممنوع الخروج منه وعليها أن ترضخ وتوافق لأن ليس لها رفاهية الإختيار . وجلست زينب على الرصيف مسندة رأسها بين يدها شاردة الذهن حزينة ، فهى القريبة البعيدة عن الدنيا كلها . وبعد ساعات طوال ومع غروب الشمس . . وخلو الشارع تماما من المارة والسيارات إلا من رنا وزينب فى مشهد واحد. . ومع السكون التام ونسمات الهواء العليل الذى يداعب شعر رنا ليتمايل يمينا ويسارا وهى تمشى فى خيلاء مزهوة بنفسها بعد انتهاء عملها متوجهة لركوب سيارتها ، ومع كل خطوة تخطوها يرن كعبها العالى وهو يلامس الأرض ، لتقترب شيئا فشيئا من زينب والتى لم تتحرك من مكانها ، قابعة على الرصيف تحاول أن تقاوم الهواء وهويحرك ملابسها وهى تسمع صوت خطوات رنا بكعبها العالى وعطرها الفواح . . واقتربت منها أكثر وأكثر وزينب جالسة تعبس فى الأرض بعصى صغيرة . . لم ترفع رأسها لتشاهدها بل ظلت هكذا . . نعم لم تراها . . ولم ترغب أن ترى غير كعبها العالى خطوة تلو الأخرى ومع كل خطوة . . . تفيق زينب من حلمها لتعود إلى ناسها وأهلها . . . .
وتوافق زينب على الزواج من البلطجى لتولد زينب جديدة فى نفس البيئة ونفس العيشة . . . وهكذا يتم استنساخ ساكنى العشوائيات سنوات تلو الأخرى دون أن يحرك حالهم ولا حكومة ولا مجتمع ولا ترى أحد يقترب لينقذ زينب من مصير أمها ، وإذا لم نستطع فلننقذ زينب التى ستولد . . ولنأخذ من تجربة منقذ البرازيل من الفقر والجهل "لولا دى سيلفا" فخلال 8 سنوات أعطى لكل طفل يولد مبلغ بسيط ولكنه محفز ، 12 دولار شهريا بشرط أن يذهب للمدارس وأن تقدم الحكومة الرعاية الصحية الكاملة مجانا .وهكذا قضى على الأمية والجهل وظهر جيل متعلم سوى . . دى سليفا انقذ زينب البرازيلية ونحن لا نزال فى مقاعد المتفرجين !!!
كيف يحدث هذا على أرض مصر ذات الحضارة والتاريخ العريق . . أيعقل أن نرى القاهرة مليئة بالعشوائية والفوضى والتفاوت الطبقى الرهيب ، العشش الصفيح بدون صرف صحى، ، مياه ، كهرباء والسكن مع جيران من الحشرات والزواحف والحيوانات الضالة . . مع كل طلعة شمس لا يجدوا ما يسد أحشاءهم التى تتلوى من الجوع !!
الهام المليجى
إدارة العلاقات العامة