باب الشعرية ... حى الخير والمشاهير
أحد أركان " قلب القاهرة الشعبية" وهو ما يقال عنه «السيتى » أو « الداون تاون» هكذا كان منذ مئات السنين ، وهكذا سيظل لمئات أخرى ... حى باب الشعرية . عرف هذا الحي بهذا الاسم نسبة إلى طائفة من البربر ، يقال لهم بنو الشعرية ، وهو أحد بابين كانا فى جزء من السور الشمالى الذى شيده بهاء الدين قراقوش وزير السلطان صلاح الدين الأيوبي رحمه الله وكان ذلك الجزء من السور الشمالى به باب البحر وباب الشعرية ، وكان يمتد بين الناصية الشمالية الغربية لحصن القاهرة ، وبين قلعة المقس التى بنيت عند ضفة النيل فى ذلك الوقت وكان موضعها مجاوراً لجامع أولاد عنان الحالى ، ولأن القاهرة المعزية – عندما أنشأها جوهر القائد – كانت مدينة لسكن الخليفة وكبار موظفيه وقادة جيوشه ، ولم يسمح للناس بالاقامة فيها.. فإن الناس أقاموا بالقرب منها ليتمكنوا من الدخول إليها للعمل والتجارة ولم يتمكنوا من السكن فيها إلا فى زمن الضعف الفاطمى وهكذا سكن الناس أقرب الأماكن إلى مقر الحكم فكان الاختيار أرض باب الشعرية.. وظل هذا الوضع قائم طوال العهود الأيوبية والمملوكية والعثمانية والأسرة العلوية ولهذا أصبح باب الشعرية فى المرتبة الأولى من حيث كثافة السكان إلى المساحة بدليل أن به أكبر نسبة من الأزقة والحارات والعطف وانعكس هذا على سعر متر الأرض وكذلك كثرة عدد المساجد والدكاكين والمقاهى. وكانت به محكمة الاستئناف فى باب الخلق وعندما أراد الخديوى إسماعيل أن ينشئ أول مكتبة قومية اختار هذا الحى لينشئ دار الكتبخانة المصرية "دار الكتب" وبجوارها تماما أنشئ المتحف الإسلامى .. وإذا كان تعبير فتوات القاهرة يلصق بحى الحسينية المجاور إلا أن التاريخ يحمل الوصف نفسه فكان هناك حرافيش وفتوات باب الشعرية ، كما تميز الحي بإقامة العديد من الطوائف الأجنبية مثل اليونانيين والإيطاليين والأرمن وطائفة اليهود التي عملت بتجارة الذهب.
ومن أشهر من ارتبط اسمهم بهذا الحي العريق الموسيقار الكبير محمد عبد الوهاب وكذلك عملاق الكوميديا نجيب الريحاني والصحفى الساخر يعقوب صنوع، والكوميديان محمود شكوكو ، ومن أشهر من ولدوا في هذا الحي أيضا الفنان المصري الكوميدي الراحل عبد المنعم مدبولي ، والفنان إبراهيم حمودة ..
بقى باب الشعرية حتى سنة 1884 وتم تسجيله فى كراسة لجنة حفظ الآثار العربية فى تلك السنة بأن أجزاء منه كانت باقية ، ومنها لوحة بالخط الكوفى ، كما شوهد رسم نسر محفور على حجرين من الأنقاض ، وكان النسر رنكاً ( أى شارة ) لصلاح الدين الأيوبى . ولازالت المنطقة حول الباب تسمى باب الشعرية ..
جامع الشيخ الشعراني
يُعد أهم معالم الحي وسمي بهذا الاسم نسبة إلى ضريح سيدي عبد الوهاب الشعراني الموجود بالمسجد، والذي ينتهي نسبه إلى محمد بن علي بن أبي طالب رضى الله عنه وأطلق عليه الشعراني نسبة إلى قريته "ساقية أبى شعرة " بالمنوفية. لم يتبق من المسجد الأصلي الأثري إلا القبة قاعدتها من الحجر وهي مبنية بالطوب، وجدرانها من الداخل محلاة بنقوش وكتابات تتوسطها مقصورة خشبية مطعمة بالصدف وهي مقامة على قبر الشيخ الشعراني رحمه الله. وللمسجد ثلاث واجهات، وهو مستطيل الشكل به ثمانية أعمدة تحمل عقودا يتوسطها منور تعلوه قبة خشبية منقوش بها زخارف هندسية ونباتية بديعة. وقد نقش المحراب بنقوش زيتية كما زين المنبر بنقوش هندسية. ويتوسط المسجد قبر العلامة الشيخ علي نور الدين الشوني، وهو شيخ الشعراني وقدوته.
جامع مدين
من الأماكن الأثرية الموجود بشياخة مدين – إحدى شياخات منطقة باب الشعرية – ينسب هذا الجامع إلى الشيخ أبي مدين المغربي، وكان من أكبر مشايخ المغرب الذين درسوا وحفظوا القرآن في مصر، يتكوّن المسجد من الخارج من واجهة واحدة تقع بالجهة الشمالية الغربية، كان يعلوها مئذنة تتكوّن من قاعدة ودورة مثمنة، تليها شرفة ودورة أسطوانية وثالثة مثمنة يليها قمة، ومن الداخل توجد ساحة مستطيلة وأربعة إيوانات، أهمهم إيوان القبلة وتتقدّمه بائكة من ثلاثة عقود، تأخذ شكل حدوة الفرس المدببة، يتوسّطها عمودان من الرخام، يعلوهما تاج إسلامي الطراز على شكل ثمرة الرمان.
حمام الطمبلي
يعد من أهم أثريات منطقة باب الشعرية الواقع بشارع الطمبلي، وله بابان أحدهما بذات الشارع والآخر بدرب الأقماعية، واجهته الرئيسية تقع بالجهة الشمالية الشرقية، ويشغلها مدخل رئيسي ينخفض عن مستوى الشارع، ينزل إليه عبر سبع درجات من السلالم الحجرية الضخمة، يعلو فتحة باب المدخل عقد مدائني، وفوق هذا الباب مدخل آخر يوجد على جانبيه عمودان مدمجان، يتوجهما صفوف من المقرنصات، ويؤدي هذا المدخل إلى مدكاة صغيرة يتوسّطها باب يؤدي إلى المسلخ، الذي يوجد به قاعة كبيرة تحيط بها ثلاثة إيوانات، يعلوها سقف خشبي يعتمد على سبعة أعمدة من الرخام تُستخدم للاستراحة قبل وبعد الحمام. بالإضافة إلى فسقية رخامية مثمنة الشكل، ويوجد بأحد جانبيها حوضان من الرخام، فضلاً عن وجود دورة مياه تقع على يمينها بسطة مربعة الشكل، يغطيهما قبة بسيطة بها فتحات مغطاة بالزجاج الملون، ومغطسان يتوسطهما بناء يخرج منه الماء للاستحمام، ومغطاة بقباب يتخللها فتحات من الزجاج للإضاءة.
الموسيقار محمد عبد الوهاب
عاش طفولته كلها فى هذا الحى العريق وما من حديث أدلى به عن طفولته إلا وكان لباب الشعرية أحلى الكلام ، إذ يروى كيف عاش بالقرب من مسجد سيدى عبد الوهاب الشعرانى وكيف أنه كان حريصا خلال أيام مولد الشيخ على متابعة حلقات الذكر وكانت تشده الأناشيد الدينية والتواشيح والدفوف والطبول وأرغفة الخبز بالفول النابت ، وكيف كان يهرب من أسرته ليختبئ خلف السرادقات ثم يتسلل من تحتها ليقترب من المنشدين والمشايخ فيهتز معهم ويردد تواشيحهم وهكذا شرب محمد عبد الوهاب عشقه الفنى من رحاب الشيخ الشعراني وعبر عن ذلك بكثير من أعماله الدينية لعل أبرزها توشيحه "أغثنا يا رسول الله"
مستشفى سيد جلال
إنسان أخر عاش فى باب الشعرية بدأ من القاع عاملا بسيطا هو سيد جلال البرلمانى العملاق الذى صال وجال تحت القبة حتى أصبح شيخا للبرلمانيين ومازال أثر سيد جلال شاهدا على بعض ما قدمه الرجل لأبناء الحى ، إنه مستشفى سيد جلال بباب الشعرية الذى بناه وقدمه هدية من الذين حملوه على الأعناق من البسطاء.
مطعم فاروق الخيرى
للوهلة الأولى وبمجرد أن تطأ قدماك حارة أحمد حسين المتفرع من شارع الجيش بمنطقة باب الشعرية، يستوقفك مبنى صغير قديم للغاية تعلوه لافتة صغيرة من الرخام مدون عليها "مطعم فاروق الخيري"، ومن هنا تبدأ رحلة زمن الكرم والذوق لمعرفة تاريخ هذه التكية التى مر على تدشينها ما يقرب من 86 عاما مضت.. حيث يقع فى أحد الأزقة الشعبية القديمة على بعد نحو 50 مترا من تمثال محمد عبدالوهاب المبنى حديثا فى ميدان باب الشعرية، إنه مبنى قديم ذى لافتة جيرية محفور عليها اسم الملك وتاريخ تأسيس مطعمه الخيرى. وظلت «تكية» الملك فاروق تقدم الطعام المجانى لأهالى بعض الأحياء الفقيرة، لعقدين كاملين، منذ أن افتتحها الملك فاروق فى العام 1932 ليقدم الطعام طول العام بمختلف أنواعه بالاضافة للحوم و الدجاج للفقراء ، فكان المطعم يقدم الوجبات بربع الثمن ولمن لا يملك المال فلا مانع من الحصول على الوجبة والمشروب مجانا ، وكان يمكن للمرء الحصول على دجاجة بتعريفة وهو مبلغ زهيد جدًا بالنسبة للوجبة حينها. كان المطعم يوزع وجبات إفطار رمضان على الفقراء فى منازلهم وتم تعيين طاقم خدمة خاص تميز بحسن المعاملة المحتاجين وعدم جرح مشاعرهم.استمرت التكية في العمل قرابة عشرين عاما، وحظيت بشهرة واسعة في أرجاء القاهرة الكبرى، وكان يستقبل الفقراء من كل مكان الذين كانوا يأتون للحصول عليها أملا في تذوق اللحوم، والمشويات التي لولا وجود التكية ما كانوا تذوقوها.
وقد نشرت مجلة «المصور» عام1941بعض الصور تصف رحلة أسرة فقيرة لمطعم فاروق الخيرى، لتناول حصة مجانية من الغذاء فى رمضان، وبحسب ما ذكرته المجلة أن السيدة تناولت الطعام وبعد ذلك قامت بملء وعاء كبير كانت قد أحضرته معها من المنزل بالأطعمة واللحوم دون أن تدفع أي مقابل مادي وخروج الأسرة فرحة بـ«الـطبيخ» و«الخبز». ونقلا عن حكايات أحد طباخى البكوات فى عهد الملك، إن مقار التكايا كانت تستقبل احتياجات المساكين، بين عابر سبيل يقصد طعاما، أو مسكين يقصد كساء أطفاله، أو فقير يبتغى وجبة يومية لبيته، أو جلبابا يكتسي به.
تم اغلاق مطعم فاروق الخيري بعد عام 1952 وتم تحويله إلى مقر حكومى للشئون الاجتماعية ليستخدم كمنفذ لصرف المعاشات وبعدها تم نقل المنفذ وبقت اللافتة التى شهدت أحداث كثيرة لم نشهدها.
سهام يوسف كمال