تصالحوا مع أنفسكم
بدأ الله تعالى خلق الإنسان من طين : [ ولقد خلقنا الإنسان من سلالة من طين ] وأكرمه بأن منحه " الإرادة أو الضمير " الذي يوجه النفس للخير – ومن جماع الخير طاعة الله وعبادته - ووهبه سبحانه وتعالى العقل الذي به يميز بين الخير والشر [ ونفس وما سواها فألهمها فجورها وتقواها ].
أودع الله تعالى في جوف الإنسان وصدره " القلب" – ويعبر عنه احيانا بـ الفؤاد - الذي هو مناط التكليف ، فهو العضو الذي فيه يتحدد موقف الإنسان من الكفر والإيمان . وليس للإنسان حكم على قلبه لقول الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم : ( قلوب العباد بين أصبعين من أصابع الرحمن يقلبها كيف يشاء ) ، وكل ما على الإنسان أن يخلي قلبه من حب الدنيا والشهوات ويملأه بحب الله تعالى وحب رسوله الكريم كما أرشدنا القرآن الكريم : [ إلا من أتى الله بقلب سليم ].
جعل الله للإنسان " نفسا " مسئولة عن إدارة هذا الكيان الإنساني المادي وأوجد لها الغرائز والأعضاء التي تحافظ بها على الحياة والبعد عن الأخطار المادية التي قد يتعرض لها الإنسان ، وقد سخر الله تعالى للنفس سائر الأعضاء لتأتمر بأمرها في الحياة الدنيا وسوف يسلبها هذا التسخير في الآخرة .
الإنسان العاقل هو من يوازن بين حاجة النفس للأمان في الدنيا وبين الأمان في الحياة الآخرة ، فلا يطيع النفس ويلبي لها كل ما تهواه من زينة الحياة الدنيا وتعتقد أنها تحافظ بها على سلامتها من الآفات ، بل عليه أن ينقذها من سوء العاقبة في الآخرة وكما قال تعالى : [ ... ومن يتعد حدود الله فقد ظلم نفسه ] ، وعليه أن يذكرها بالجائزة الكبرى لمن يطيع الله سبحانه وتعالى وهي أن تكون نفسه من النفوس المطمأنة التي قال فيها تعالى : [ يا أيتها النفس المطمئنة إرجعي إلى ربك راضية مرضية فادخلي في عبادي وادخلي جنتي].
ليس المطلوب هو الصراع بين ضميروإرادة الإنسان وبين نفسه التي تؤثر المحافظة على السلامة المادية للكيان الإنساني ، بل المطلوب هو التصالح مع النفس وإقناعها بأن مصلحة المرء تكمن في المحافظة على السلامة في الدنيا والآخرة فيعيش الإنسان في هدوء وسلام ، وفي سبيل ذلك على المرء أن يقيم حوارا دائما مع نفسه بالحسنى وعدم تكليفها بما لا تطيق من الأعمال ، وهذا ما يسميه علماء الشريعة الأفاضل " المراقبة وحساب النفس " فقال تعالى : [ قد أفلح من زكاها وقد خاب من دساها].
حثنا المولى عز وجل في القرآن الكريم على عدم تكليف النفس بما لا تطيق فبدأ بنفسه جل وعلا فقال : [ لا يكلف الله نفسا إلا وسعها ] ، وكذلك كان فعل الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم حينما استأذنه الصحابي الجليل بالإذن له بصيام الدهر فنصحه بعد نقاش طويل بالرفق بنفسه واتباع صيام نبي الله داود عليه السلام الذي كان يصوم يوما ويفطر يوما .
طلب الحق سبحانه وتعالى من رسوله الكريم عدم إرهاق نفسه بالحسرة على عدم تصديق بعض الناس لرسالته لحرصه الشديد على إنقاذهم من نار الآخرة في عدة مواضع من القرآن الكريم منها قوله تعالى : [ فلا تذهب نفسك عليهم حسرات].
اقتضت حكمته تعالى أن تكون الدنيا دار اختبار وابتلاء وحذرنا من الشيطان الرجيم الذي هو في صراع دائم مع الإنسان للسيطرة على النفس وإبعادها عن طاعته سبحانه وتعالى ، فحينما أراد نبي الله يعقوب أن ينصح ابنه يوسف على نبينا وعليهما السلام لم يحذره من إخوته بل حذره من الشيطان المتربص بالناس كما قال تعالى : [ ... إن الشيطان للإنسان عدو مبين ] فعلى المرء مراقبة نفسه وعدم تركها لحب الزينة والشهوات فيزين لها الشيطان كل ما يغضب الله ، ولا أن يحملها ما لا تطيق فتبحث عن منقذ لها من المشقة فيتلقفها الشيطان ويوسوس لها ليخرجها من طاعة الله ورحمته .
أمرنا الدين الحنيف بتربية النفس تربية سليمة كما يربي أحدنا طفله الصغير ، وفي سبيل ذلك على المرء أن يراقب نفسه مراقبة دائمة وأن يحذر الغفلة فيتركها مطية للشيطان وأن يطلب العون من الله العظيم ، فقد قال الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم للصحابي الجليل الذي طلب مرافقته في الجنة : ( أعني على نفسك بكثرة السجود ) ، وكما قال أحد السلف الصالح " فليربي أحدكم نفسه كما يربي المهر الصغير ، فإذا ما طبَّـعه تمكن من قيادته وتوجيهه حيث يشاء " .
ليس المطلوب هنا قصر التصالح بين المرء ونفسه فقط ، بل يحثنا الشرع الحنيف على تعميم التصالح في المجتمع بدءا بالأسرة ثم كافة فئات المجتمع بما فيهم غير المسلمين لقوله تعالى : [ لا ينهاكم الله عن الذين لم يقاتلوكم في الدين ولم يخرجوكم من دياركم أن تبروهم وتقسطوا إليهم إن الله يحب المقسطين ] ، وخير مثال على هدي الرسول صلى الله عليه وسلم في الحرص على سلامة وتماسك المجتمع هو إصداره " صحيفة المدينة " التي يبين فيها دور كل فئات المجتمع بما فيهم اليهود المقيمين في المدينة في ذلك الوقت .
مهندس / محمد موسى