حواديت الشوارع
شارع رمسيس على شط النيل!
الشوارع خير شاهد حى على التاريخ ، لذا قبل أن ننبش فى تاريخ وحكاية شارعنا يجب أن نضع فى الأعتبار أن القاهرة مدينة متعددة المدن ... فيها العواصم الأربعة القديمة لمصر: الفسطاط ، العسكر ، القطائع ، والقاهرة الفاطمية. اشتهرت القاهرة بتعدد مسالكها فهنالك الميدان والشارع والحارة والدرب والزقاق ... والحارة أساس التخطيط منها يتفرع الدرب والزقاق إلى أن نصل للعطفة ثم إلى الخوخة. كان يقيم في الحارة ابناء المهنة أو الحرفة الواحدة ، مازال ابناء "الحتة" الواحدة يعربون عن مايربطهم دائما "عيب ده إحنا ولاد حارة واحدة" ... و"الخوخة" هى الأصغر من الحارة و"الرحبة" التى توجد أمام بيوت الأمراء والأغنياء ... أما الزقاق فهو غالباً مغلقاً فى نهايته وهو عبارة عن مدخل لعدة بيوت ، أما "الدرب" فهو الأكبر الذى يبدأ من الباب الكبير للحارة .. عندما كان لحارات القاهرة أبوابها. لكن انتهت الحارات والدروب وانتهى عصر الأزقة لنجد فى عصرنا الأحياء و التجمعات السكنية.
ننتقل الآن إلى قلب القاهرة ... من باب الشعرية إلى الموسكى ، هو قلب القاهرة الشعبية ...قلبها التجارى والترويحي والثقافى ، فهذه المنطقة عامرة بالمساجد "مسجد الفتح – قلاوون – السلحدار – الشعراوى" والكنائس "كنيسة الأرمن – الأفرنج الكاثوليك – كاتدرائية مارمرقس" والمعابد اليهودية "كنيس بالقرب من جامع برقوق – كنيس قرب شارع بين السورين – وآخر بين شارع الجيش وشارع الموسكى"... بل كان هناك دار إعداد كسوة الكعبة التى ظلت مصر تقدمها لبيت الله الحرام مئات السنين. هذا المثلث الكبير قاعدته شارع الخليج المصرى من الشرق وشارع الفجالة من الشمال وشارع عباس – نازلى – النهضة "رمسيس الآن" من الغرب ثم سرة القاهرة عند العتبة والأزبكية و"باب الحديد" الذى كان بمثابة عصب الحياة للعاصمة المصرية.
ولايمكن أن نتحدث عن باب الحديد دون الحديث عن تحرك نهر النيل غرباً... يقول العلامة المصرى الدكتور رشدى سعيد فى كتابه "نهر النيل" إن النهر عند القاهرة غير مجراه أربع مرات منذ الفتح الإسلام لمصر إلى نهاية القرن التاسع عشر، فقد كان النيل عند الفتح العربي لمصر عام 642م يمر بهذه المنطقة.
فى عصر الدولة الفاطمية ونتيجة لقرب نهر النيل من منطقة "باب الحديد" قرروا أن تصبح هذه المنطقة هى "ميناء القاهرة"... حيث يربط "ميناء باب الحديد" القاهرة الفاطمية بالوجه البحرى. وليس غريباً أن تصبح "منطقة جمارك العاصمة" ونتيجة لذلك تم تسميتها بـ"منطقة المقس" أى المكوس وهى الجمارك.
بنى الخليفة الفاطمى العزيز بن المعز لدين الله داراً لصناعة السفن بجوار جامع أولاد عنان "مسجد الفتح حالياً" ولقد كتب المقريزي كثيراً عن الإحتفالات التى كانت تصاحب خروج الأسطول المصرى من "ميناء المقس".
أقام الخليفة العزيز "منظرة اللؤلؤة" بالقرب من باب القنطرة جهة جامع الشيخ الشعرانى حيث كانت تشرف على البستان الكافورى من الشرق وكان أسفلها سرداب متصل بالقصر الكبير يتنزه فيه الخليفة أيام امتلاء الخليج بمياه النيل.
ثم بنى الخليفة الفاطمى الحاكم بأمر الله مسجداً كبيراً فى هذا المكان هو "جامع المقس" على شاطئ النيل حيث تم تفكيك "مسجد أولاد عنان" فيه ليتم بناء "مسجد الفتح" الموجود الآن عند باب الحديد واستغرقت إقامته أكثر من 14 عاماً.
وكانت هناك "قرية أم دنين" وتقع على يسار شارع كلوت بك إلى السكة الحديد وتمتد إلى "شارع الجمهورية" الآن الذى حمل اسم "شارع نوبار باشا" أول رئيس وزراء لمصر فى عهد إسماعيل باشا لأن بيته كان فى هذا الشارع. بين قرية أم دنين والشاطئ الغربى لخليج الدكر يوجد "ميدان القمح" كما أسماه المقريزى حيث كان الواقف بهذا الميدان يرى النيل عن يمينه و"بستان المقس" عن يساره.
تحول هذا الميدان إلى متنزه عمومى عام 1844م ، وفى عهد عباس باشا الأول تم توقيع إتفاق مع الحكومة الإنجليزية لإنشاء خط للسكك الحديدية بين القاهرة والإسكندرية وآخر بين القاهرة والسويس... واستدعى ذلك إنشاء محطة للسكك الحديدية فى منطقة باب الحديد عام 1856م ، لكن تم نسفها بسبب انفجار مخزن للذخيرة عقب الإحتلال الإنجليزي لمصر 1882م لتقام مكانها المحطة الحالية على الطراز الأنجليزي المعروف وهى "محطة باب الحديد"...
وفى خريطة منتصف القرن العشرين نجد "شارع عباس الأول" تحول إلى "شارع الملكة نازلى" ثم إلى "شارع الملكة" فقط ثم تحول اسمه إلى "شارع النهضة" ، بعد أن تم نقل تمثال "نهضة مصر" الذى أبدعه الفنان محمود مختار إلى ميدان باب الحديد. ولذلك قصة حيث ذهب سعد زغلول ورفاقه لزيارة معرض الفنون الجميلة السنوي في باريس عام 1920 وشاهدوا التمثال المصري وأعجبوا به، وكتبوا إلى مصر يشجعون على إقامته في القاهرة، ووافق مجلس الوزراء في 25 يونيو 1921. كما أسهم الشعب المصري في اكتتاب عام لإقامته، دعت إليه صحيفة الأخبار المصرية التي كان يرأسها الكاتب الصحفي الشهير وقتها أمين الرافعي، ثم أكملت الحكومة النفقات، وفي 20 مايو عام 1928 أقيمت حفلة كبرى في ميدان باب الحديد-(رمسيس حالياً) لإزاحة الستار عن التمثال، ثم نقل التمثال من مكانه الأول إلى ميدان جامعة القاهرة في عام 1955 ، ليحل محله تمثال "رمسيس الثانى".حيث عُثر على تمثال رمسيس في قرية "ميت رهينة" فأصدر الرئيس جمال عبد الناصر قراراً بنقل التمثال من القرية إلى ميدان باب الحديد وتم نقل تمثال نهضة مصر أمام حديقة الحيوان بالجيزة، وتغير اسم الميدان إلى "ميدان رمسيس" عام 1956م.
بعد 50 عاماً فى نهاية القرن العشرين أصبح "شارع النهضة" هو "شارع رمسيس"... ويختفى "جامع أولاد عنان" ليحل محله "جامع الفتح" حيث كان فى موقع الجامع نفسه الدير القبطى ليقيم مكانه صلاح الدين الأيوبى برج أو قلعة المقس ، ثم يقيم الحاكم بأمر الله مكانه جامع المقس لتهدمة الحملة الفرنسية ويقيم مكانه أولاد عنان مسجدهم الشهير ليصبح فى نهاية القرن العشرين مسجد الفتح وصاحب أعلى مآذن القاهرة كلها. واختفت محطة كوبرى الليمون – الذى كان بدايته سوق لليمون ثم قنطرة ثم قلعة "كامان" لتقام مكانها محطة مبارك لمترو الأنفاق التى أصبحت الآن محطة الشهداء.
ظل "شارع باب البحر" كماهو الأثر الوحيد الباقى أن نهر النيل كان يصل إلى هنا ... شارع رمسيس.
سهام يوسف كمال