خرسانة حية
تجدد نفسها بنفسها بإستخدام البكتيريا والرمال
تمكَّن فريق بحثي من جامعة كولورادو بولدر بالولايات المتحدة الأمريكية من تطوير خرسانة حية غير تقليدية باستخدام البكتيريا والرمال، وذلك وفق نتائج الدراسة المنشورة منتصف يناير من العام الجاري، في المجلة العلمية "ماتر" Matter، أحد إصدارات مجموعة دوريات سيل Cell.
حيث تم ابتكار مواد بناء حية هجينة، يمكنها أداء وظائف بنائية وحيوية على السواء، إذ أمكن لعلم الأحياء أن يؤدي دورًا في تصنيع مواد بناء قوية ذات قدرة على التحمُّل، ويمكنها أيضًا التجدُّد بعد الإستخدام. إلى جانب ذلك، فإن غالبية مواد البناء كالأسمنت يستهلك تصنيعها كميات هائلة من الطاقة، وينتج عنه انبعاثات ملوِّثة هائلة أيضًا، لذا فإن فكرة استخدام البكتيريا في عمليات تصنيع مواد البناء هى فكرة مذهلة وموفرة لأنه حتى مع تلاشي اللون، تبقى البكتيريا حية لعدة أسابيع ويمكن تجديد عملياتها الحيوية، ما يؤدي إلى تزايد عددها وذلك في ظل الظروف المناسبة.
التمعدن الحيوي
تمكَّن العلماء من تطوير هذه المواد من خلال إضافة أحد أنواع البكتيريا إلى دعامات مكونة من الرمل و الهيدروجين مما يتيح لتلك البكتيريا أن تتكاثر على تلك الدعامات ثم تقوم بمعدنتها (أي إكسابها خواص معدنية) منتجةً مواد بناء حية ذات قدرة تحمُّل مكافئة للمونة المصنوع من الأسمنت.
تنتمي البكتيريا المستخدمة في إنتاج مواد البناء الحية إلى نوع من البكتيريا يُعرف بالسيانوبكتيريا أو "البكتيريا الزرقاء" Cyanobacteria وتتسم تلك البكتيريا بقدرتها على القيام بعملية البناء الضوئي، بالإضافة إلى إنتاج كربونات الكالسيوم، الذي يُعَد المكون الأساسي لعدد من مواد البناء، كالأسمنت والحجر الجيري.
من خلال عملية التمعدن الحيوي يتحول خليط البكتيريا والرمل والهلام إلى قالب طوب يمتلك قوة خرسانة الأسمنت
لتصنيع قالب من الطوب باستخدام تلك البكتيريا، يتم حقنها في قالب من الرمل والهلام المائي الذي يؤدي دور الوسيط الملائم لنمو البكتيريا عبر توفير الغذاء والماء. ولدى نمو البكتيريا المحقونة وتكاثرها تقوم بإنتاج كربونات الكالسيوم، التي تعمل على إكساب ذلك الهلام خواص معدنية، في عملية تعرف بالتمعدُن الحيوي. فالأمر أشبه باستفادة الجنين البشري بالعناصر الكيميائية الموجودة في جسمه لتكوين العظام الصلبة.
وبهذا يتحول خليط البكتيريا والرمل والهلام إلى قالب طوب، وعبر التحكم بشكل دقيق في درجة الحرارة والرطوبة يمكن الحصول على قالب طوب يمتلك قوة خرسانة الأسمنت ذاتها.
معالجة الشروخ ذاتياً
من الخصائص فائقة الأهمية للمواد البنائية الحية الجديدة امتلاكها القدرة على معالجة الشروخ التي قد تتكون فيها بشكل ذاتي، الأمر الذي يحدث من خلال خاصية التمعدن الحيوي الذي تقوم به بكتيريا المتعاقبة الحبيبية الموجودة في مواد البناء.
يوضح ذلك الأمر العلماء : "مواد البناء الحيوية التي تحوي البكتيريا يمكنها إنتاج كربونات الكالسيوم بشكل مستمر. الأمر الذي يعني امتلاكها خاصية الالتئام الذاتي لسد تشققات مواد البناء وشروخها بشكل أوتوماتيكي. ولهذا الأمر يمكن لمواد البناء الحية الجديدة إحداث ثورة في عالم مواد البناء".
تُعرف تلك العملية باسم " ترسيب كربونات الكالسيوم المحرض باستخدام الكائنات الدقيقة"، التي تُعَد الفكرة الرئيسية وراء استخدام البكتيريا في مواد البناء، إذ تشير دراسة مراجعة منهجية نُشرت عام 2018 إلى أنه خلال العقد المنصرم كان هناك اهتمام من قِبَل العديد من العلماء والباحثين بتلك العملية، خاصةً بغرض الالتئام الذاتي للخرسانة، إذ نُشرت العديد من الأبحاث التي تناولتها تلك المراجعة.
بالإضافة إلى هذا، بكتيريا المتعاقبة الحبيبية التي تتمتع بمميزات أخرى، ترشح مواد البناء الحية المصنوعة منها لإستخدامها في البيئات القاسية، إذ تقوم بعملية ترسيب كربونات الكالسيوم المحرَّض بفعل الكائنات الدقيقة بشكل فعال، كما يمكنها البقاء على قيد الحياة باستخدام الحد الأدنى من المغذيات، بجانب قدرتها على تحمُّل الظروف القاسية، كالحموضة أو القلوية الزائدتين، أو ارتفاع الملوحة أو الحرارة.
تطبيقات مستقبلية
يأمل الفريق البحثي أن يكون لمواد البناء الحية الجديدة العديد من التطبيقات الأخرى في المستقبل، فمن خلال استخدام أنواع أخرى من البكتيريا بالمواد البنائية يمكنها أن تمتلك خواصَّ حيويةً أخرى، مثل استشعار الملوِّثات الموجودة في البيئة المحيطة وتحييدها، أو حتى توفير الإضاءة بشكل ذاتي عند الحاجة.
لكن هناك العديد من التحديات التي تواجه فريق الباحثين، إذ يوضح أحدهم وهو العالم "سروبار": "نحن نعمل على تحسين تركيبات المواد بغرض تعزيز خصائصها الميكانيكية، بجانب استمرارية حيويتها وقدرتها على التحمُّل على المدى الطويل. كما أننا نستكشف استخدام كائنات حية دقيقة أخرى يمكنها إضافة وظائف حيوية مهمة أخرى لمواد البناء الحية".
وأضاف أن استخدام مواد البناء الحية الجديدة بشكل تجاري قد لا يكون سهلاً، إذ يعقب "هاميلتون" و"ناب" على ذلك بقولهما: "تواجه أية مواد بناء جديدة تحديًا يتمثل في أن عالم الصناعة أكثر تحفظًا، إذ تحتاج تلك المواد إلى أن تكون قياسية وذات خصائص يمكن التنبؤ بها، وهذه عملية بطيئة للغاية. كما أن توسيع نطاق أية عمليات تتم بالمعمل يتضمن تحديات تقنية ولوجستية عديدة، بجانب عبء جعلها ذات جدوى اقتصادية". وفي نهاية المطاف، يؤكد "سروبار" أن الأمر لا يزال في المراحل الأولى، لكنه يتوقع أن تكون مواد البناء الحية متاحةً للاستخدام بشكل تجاري في غضون 5 إلى 10 سنوات قادمة.
المصدر: https://www.cell.com/matter/fulltext/S2590-2385(19)30391-1
م. عمرو طلعت
رئيس قطاع – مدير مركز المعلومات
الإدارة العليا ودعم إتخاذ القرار