حواديت الشوارع
"إن من لم يرَ القاهرة ، لم يرَ الدنيا"
تُعد لافتات الشوارع صفحات من التاريخ تحتضن فى جناباتها قصص أصحاب الحرف والزعماء والملوك .. قديماً كانت الأحياء والمناطق فى مصر تحمل اسم القبيلة التى عاشت فيها أو أرباب صنعة أو اسم صاحب قصر ، مثل قصر عابدين الذى حمل اسم عابدين بك ، ومنطقة الأزبكية نسبة إلى الأمير المملوكى "أوزبك"...حتى أصدر"محمد على باشا"مرسوماً بتحديد اسماء الشوارع وتركيب لافتات تدل عليها وأرقام لكل مبنى.
لم تحمل شوارع القاهرة الفاطمية أسماء أشخاص ولكن حملت أسماء حرف أو تجارة... ولم تأت هذه الأسماء إعتباطاً ولكن الذين اختطوا القاهرة الفاطمية راعوا تركيز أصحاب كل حرفة فى شارع أو منطقة، مثل شارع النحاسين (باعة الأوعية النحاسية وليس صناعتها) ، و الصنادقية (باعة الصناديق التى كانت تمثل مهمة الدولاب وكانت العروس يقاس غناها بعدد الصناديق التى تحملها الدواب من بيت والدها إلى بيت "العَدَل" أى الزواج) ، والفحامين (تتركز فيه صناعة الفحم) والخيامية (و هم صناع وباعة الخيام لتوفيرها للبدو الذين يعيشون على أطراف المدن أو للإحتفالات التى يقيمها الحاكم والوالى فى المناسبات) ، والمغربلين (كانت حرفة نشطة بسبب اتساع تجارة الحبوب فكان هناك من يتولى غربلة الحبوب وتنظيفها) والكحكيين (باعة الكحك وصُناعه).
بدأ تخطيط منطقة وسط القاهرة فى عهد الخديوى إسماعيل وتحمل شوارعها أسماء زعماء وقادة العمل السياسى مثل: محمد شريف باشا "شارع شريف"و عدلى باشا يكن "شارع عدلى" وعبد الخالق ثروت باشا "شارع ثروت"والزعيم محمد فريد والزعيم أحمد عرابى... كما حملت أسماء ملكية مثل: شارع فؤاد "26 يوليو حالياً" وفاروق "شارع الجيش" والملكة نازلى "رمسيس حالياً" وسليمان باشا الفرنساوى "طلعت حرب حالياً". بالإضافة إلى ذلك نجد أسماء شوارع أُطلقت للمجاملة ، مثل: شارع إيران ومصدق و بهلوى عندما كانت مصر وإيران تربطهما المصاهرة بزواج الأميرة فوزية بنت الملك فؤاد من ولى عهد إيران وقتها محمد رضا بهلوى ، وشارع عبد العزيز الذى سنتطرق إلى حدوتة تسميته الآن...
يمثل شارع عبد العزيز معبر آمن بين عالمين مختلفين ...عالم القاهرة الشعبية وروائح الماضى وبخور الحسين وأجواء الأزهر والموسكى والعتبة ، وعالم القاهرة الأوروبية فخامة قصر عابدين وشوارع ميدان التحرير.. افتتح الخديوى إسماعيل شارع عبد العزيز عام 1870 لسببين: السبب الأول "هندسى" لتسهيل المواصلات وإكمال تخطيط القاهرة ، والسبب الآخر "ملكى" وهو تكريماً لإسم السلطان عبد العزيز الذى تولي الخلافة العثمانية عام 1861م وقد دعاه الخديوى إسماعيل "وكان والي مصر وقتها" لزيارة مصر عام 1863م وقد إستطاع الخديوى إسماعيل أن يحصل منه علي 3 فرمانات منحت مصر بعض الإستقلال الذاتي بعيداً عن سيطرة الدولة العثمانية في الكثير من الأمور كما منحت الولاة المصريين لقب الخديوى ولم يتلقب به إلا ولاة مصر فقط وأخيراً جعلت ولاية العهد محصورة في ذرية الخديوى إسماعيل من بعده.
كان شارع عبد العزيز جزءاً مهملاً من منطقة خصبة فى زرع الصبار وكانت مخصصة لمدافن القاهرة...وعندما بدأ إسماعيل باشا فى شق الشارع أزال المقابر ونقل رفاتها إلى مكان آخر وتم اختيار أرضه لتسيير الترام الذى كان يصل إلى مشارف قصر عابدين وعُرِف باسم "شارع التروللى" وكان موطن لموظفى وعمال الترام ،ومن بقايا هذا التاريخ اللجنة النقابية للعاملين بالترام فى نهاية شارع عبد العزيز.
أول ماتم إنشاؤه في هذا الشارع كان مسجد تم تسميته "مسجد العظم" حيث جمع الأهالي رفات موتاهم ووضعوها في المكان الذى تم بناء المسجد فيه كما أقاموا به مقاماً لأحد الأولياء إسمه العارف بالله عبد القادر الدسوقي شقيق الشيخ إبراهيم الدسوقي.
ومن معالم هذا الشارع "سينما أوليمبيا" التي تعد أقدم دار سينما في مصر وفي الشرق الأوسط كله ويتعدى عمرها المائة عام وكانت الأرض التي بنيت عليها ملك لمحمد شريف باشا المعروف بإسم أبو الدستور المصرى ونظراً لحبه الشديد للشيخ سلامة حجازى فقد أهداه تلك الأرض لتكون مقراً لأول مسرح فني في مصر عام 1904م وهو "التياترو المصري"... وكان الشيخ سلامة حجازي هو مطرب الفرقة التي كان يملكها أحد رواد المسرح السورى إسكندر فرح ، وصار تياترو شارع عبد العزيز ينتقل ما بين عروض مسرحية وأخرى سينمائية وكان آخرها فرقة تسمي فرقة أولاد عكاشة ولكن بعد إنتشار فن الرسوم المتحركة تحول هذا المسرح إلى سينما وتم عرض أول عرض سينمائي بها عام 1907م ولكن ظلت تعرض بها العروض المسرحية ولما رأى إسكندر فرح الإقبال على السينما إستحضر فيلماً ملوناً للعرض، وكانت سينما أوليمبيا هى أول من أدخل الترجمة العربية على الشاشة وقد إخترعها المسيو ليوبولد فيوريللو الموظف بوزارة الأشغال العمومية بإستخدام ألواح زجاجية يظهرها الفانوس السحري الذى كان يمثل آلة العرض السينمائي وقتها.
ومن أهم المعالم المعمارية فى شارع عبد العزيز محل "عمر أفندى"...حيث بدأ النشاط التجارى بهذا الشارع عندما أسس كل من ليون أوروزدى وهيرمان باك في القاهرة محل تجارى أسمه"أوروزدى باك" في عام 1856م و تم إنشاء مقر جديد مكون من 6طوابق بشارع عبد العزيز صممه المهندس راؤول براندن علي الطراز المعروف بإسم الباروك أو الروكوكو ...كان المبني تخرج منه أنوار تضيء ليل القاهرة كإعلان عن وجود أوكازيون ، أما عن سبب تسمية المتجر بعمر أفندى فذلك نسبة إلي رجل يسمي "عمر أرناؤوط" من أصول ألبانية كان يعمل في محلات أوروزدي باك وقد سمي بالأفندي لأنه كان يرتدي ملابس الأفندية آنذاك أي البدلة والطربوش وكان بائعاً مبدعاً يجذب الزبائن ويتعامل بلباقة معهم...وبعد بيع المتجر عام 1920م كان مالكه الجديد ثرى مصرى يهودى شديد الذكاء وغير إسم المتجر إلى "عمر أفندي" من ناحية ليستغل العلاقة الوطيدة التي كونها عمر أفندي مع زبائن المتجر وقيل إنه دخل معهم في شراكة بالاسم التجاري ومن ناحية أخرى تفادياً للبطش الإنجليزي الذي كان يمقت أي شيء له علاقة بالمجر أو النمسا.
"مقهى البوسطة" الذى يقع فى نهاية شارع عبد العزيز داخل ميدان العتبة وسبب تسميته أنه كان قريباً من مبنى مصلحة البريد الموجودة حتى الآن ، وكان له تأثير هائل على الفكر المصرى الحديث حيث كان من رواده جمال الدين الأفغانى ومحمد عبده وسعد زغلول ومحمود سامى البارودى وإبراهيم الهلباوى ويعقوب صنوع وعبد الله النديم...وتغير اسم المقهى ليصبح "قهوة متاتيا" وكان أشبه بجامعة أدبية شعبية ، ومن رواده الشيخ زكريا أحمد وبيرم التونسي الذى كتب قصيدة تغزل فى المقهى ورواده.
وعند أطراف شارع عبد العزيز يقع ميدان العتبة الخضراء ...عندما دخل العثمانيون مصر عام 1517م أقاموا خيامهم حول بركة الأزبكية ثم بنى رضوان كتخدا قـصـراً كبيراً على الحافة الشـــرقية للبركة وفى نفس موقع القصر أقيم بيت تاجر البن الشــــهير ” الدادة الشرايبى ” وكان يعرف بإسم ” الثلاث ولية" ثم سمى سراية "العتبة الزرقـــاء" حيث كانت عتبة هذا القصر زرقاء اللون وظلت قائمة حتى آلت إلى طاهر باشا ناظر الجمارك ثم إلى الخديوي عباس حلمي الأول فهدمها وأعاد بناءها وأطلق عليها اسم "العتبة الخضراء" لأنه يتشاءم من اللون الأزرق وقد تغير إســــم الميدان من ميدان العتبة الخضراء إلى "ميدان الملكة فريدة" عندما تزوجها الملك فاروق وبعد ذلك أعيد إلى إســمه القديم.
سهام يوسف كمال