ملك روحى
أغمضت ملك عينها وهى تتمنى أمنيتها التى لم تغيرها منذ سنوات مضت ، وأبتسمت للمة العيلة التى أحاطتها وهى تطفىء الشمعة 17 من عمرها لتستقبل عامها الجديد ، ووسط الضحكات وترديد كلام الجدة "والله كبرتى ياملك " والأصوات العالية من أولاد خالها الصغار ملحين عليها بتقيطع التورته ... ها هى ملك تتمايل بشعرها القصير نوعاً ما وجسمها الرشيق على نغمات الموسيقى وقسمات وجهها الذى لا تفارقه البسمة من القلب لتدخل القلب دون استئذان ، وبعد ساعات قليلة يتركهم الخال وزوجته وأولاده مودعاً الجميع إلى مسكنه فى نفس العمارة التى تسكنها عائلته ليتمكن من الاستيقاظ مبكراً للذهاب لعمله ...
وفجاءة استيقظ الخال من نومه بعد أن شعر برعشه وارتفاع فى حرارة وسخونه فى جسمه كله وأعراض أخرى تشبه أعراض الأنفلونزا ولكنه كطبيب شك فى الأمر ومع بزوغ شمس النهار تأكد من إصابته بفيروس كورونا بعد إجراء المسحة بل إصابة زوجته وأولاده أيضاً ، هنا أكتسى وجهه بتعبيرات القلق والخوف من مجهول لم يُكتشف علاج نهائى له .... كيف وهو الطبيب لم يراعى التحذيرات والمسافات الآمنة والتى كانت وقتها نحفظها جميعاً عن ظهر قلب من كثرة إعادتها فى وسائل الإعلام المختلفة وعلى الرغم من متابعتنا اليومية بأرقام الإصابة فى مصر بل على مستوى العالم وعدد الوفيات ، ورغم ذلك كنا نشاهد حفلات جماعية والزيارات داخل البيوت دون أكتراث للعواقب ظناً منا أن الإصابة بالفيروس لا زالت بعيدة عنا .......
وكان على الخال أن يعزل نفسه وأسرته داخل المنزل مع أخذ برتوكول العلاج المتبع من وزارة الصحة وفى نفس الوقت عليه أن يخبر شقيقته بما حدث لعمل مسحة لكل المتوجدين فى يوم عيد الميلاد وتملك الجميع الرعب من الإصابة وبالذات على الجد والجدة لكبر السن والأم لإصابتها ببعض من الأمراض المزمنة والتى تُصعب من عملية الشفاء من المرض لضعف المناعة !!! .... وكان من توابع ذلك اليوم إصابة والدة وجدة ملك بفيروس الكورونا وعدم إصابة ملك وشقيقها وجدها بعد !!! ... والتى أصابت الجميع بالصمت الرهيب والقلق والخوف من المجهول ؟!! ...... ومع تفشى حالة التنمر فى المجتمع عند إصابة شخص ما بالكورونا ... على الفور نلاحظ كل زملاء العمل والجيران وجيران الجيران كلُ يحاول أن يتذكر متى سَلم على هذا الشخص ... وهذه الحالة لم تقتصر على طبقة معينة أومجتمعنا فقط بل أصبحت ظاهرة عالمية !!!!! ... هنا قررت ملك بمفردها أن تتحمل أعباء خدمة ورعاية الجميع ، والعمل على فصل المصابين عن غير المصابين بالفيروس لأنه بالتأكيد لن يقترب أحد للمساعدة خوفاً من العدوى...............
سرحت ملك والتى كان كل تفكيرها أن تخرج هى وأمها وشقيقها من شقتهم بالقاهرة والسفر للإقامة لبضع أيام عند جدها لكسر الرتابة والملل من قضاء الوقت ما بين الجلوس أمام شاشات التليفزيون خلال فترة إنتشار الفيروس ورفع شعار (خليك بالبيت) ... والتزام الجميع بالحجر المنزلى ....... كيف أنقلب الحال هكذا فى ساعات قليلة !! ومع شعور ملك بخطورة الحالة الصحية للجدة والأم ، وأن الأفضل لهم أن يتلقوا العلاج فى المنزل.... وأعتادت ملك خلال تلك الفترة أن تبدأ يومها مع ساعات الصباح الباكر مع طاحونة العمل اليومى من إعداد طعام طازج يومياً وشرب سوائل بصورة دورية يتخلل ذلك المداعبة والملاطفة للجدة المصابة لكبر سنها بالإضافة إلى فصل الأدوات المستخدمة للمصابين من أطباق وأكواب وأشياء أخرى وأدوية بمواعيد محددة مع التعقيم وتنظيف الأرضية بالماء والكلور طوال الوقت بالإضافة لتطهير الحمام بعد إستخدام كل فرد .... وقلبت ملك الشقة إلى مستشفى للحجر الصحى ولكن الفرق هى أنها همزة الوصل بين المصابين فى نفس مكان الغير مصابين .. وعليها ارتداء الماسك على الوجه والجوانتى وخلعهم فور خروجها من غرفتهم ، وكانت لا تنسى وسط ذلك من أعداد كل ما يحتاجه الجد والشقيق وتلبية طلباتهم..... لينتهى يومها منهكة تحاول أن تلتقط نَفسها على الآريكة والتى تنام عليها فى غرفه المعيشة ، ومعها سندوتش جبنة صغير بعد أن تذكرت انها لم تذق شيئاً وتلتهمه قبل أن يغلب النوم عينها ولكن بعين مغمضة وعين مفتوحة لتكون استاند باى لأى مناداة "يا ملك" تجرى على طول لتلبى النداء................
وإذ بناقوس الخطر يدق ... مع صوت الجدة تتوجع من شدة الآلم و ضعف قدرتها على التنفس ... و التقطته أذن ملك بوضوح وهرولت سريعاً إلى غرفة الجدة وبنظرة عطف وحنان لمست يديها وبجوارها أمها .... وها هى المرحلة الثانية من المرض تصيب الجدة .. وكان لازماً نقلها للمستشفى سريعاً ... ومع متابعة الخال مع ملك بأى تغييرات تطرأ على الأم ... وبعد أيام قليلة ظهرت علامات تدهور حالتها ، ألقى الخال نظرة متفحصة عليها ، أدرك حينها أن عليه نقلها إلى المستشفى لعدم تحسن حالتها .... ..
لم تنسى ملك لحظة إنها ورثت قوة الإرادة من أبيها والتى لم تبارح صورته خيالها منذ أن استشهد فى أحدى عمليات الشرطة لمداهمة أوكار الإرهاب وأصابته رصاصة أودت بحياته فى الحال تاركاً ملك لم تبلغ عامها العاشر .... ومن ساعتها أصبحت حكاية ملك هى كيف تحقق الحلم الذى سيطر على عقلها وقلبها أن تصبح أحدى الضابطات المتخصصين ........
بعد مرورشهرين ،أصبحت ملك وحيدة حزينة و خائفة على الأم والجدة ... لا تستطيع أن تزورهم فى المستشفى لمخالطتها لهم ... وانتظرت أيام أخرى معزولة تماماً وشعرت حينها بفقد حاسة الشم والتذوق ، و تحاملت على نفسها واستجمعت قوتها لتخدم نفسها بنفسها وهى هذه المرة مريضة مع استمرارها بالإعتناء بطعام جدها وشقيقها .... والأهم تطهير المنزل فى اليوم عدة مرات ... وتحدت ملك الفيروس بإرادة وتصميم على الشفاء سريعاً وساعدها ظهور أعراض متوسطة للفيروس تستطيع التغلب عليها..........
وبمرور أيام قليلة على دخول الجدة والأم ... لم يتحمل قلب الجدة وفاضت روحها مستسلمة للفيروس بعد هجومه وحدوث خلل فى أجهزة الجسم كلها ... وأعقب ذلك بقليل وفاة الأم بعد تدهور سريع فى الحالة الصحية تآثراً بكورونا .... وفقدت ملك روحها وونسها فى الحياة الأم والجدة !!!! ............. وها قد وصلت ملك هذا العام إلى الثانوية العامة وأصبحت قاب قوسين أو أدنى من تحقيق ما تتمناه والتغلب على أحزانها لتهدى نجاحها إلى روح الأم والجدة .......
ومع توقعات من موجة ثانية لفيروس كورونا مع بدايات الشتاء... تمنياتنا بأننا قد وعينا الدرس ولن ننكرر أخطاء ما حدث فى الموجه الأولى إلى أن يتم إكتشاف دواء فعال له ... ودعواتنا بعدم إحتياجنا للجلوس فى البيت مرة أخرى... وتوقف الحياة ... وبأيدينا أن نحمى أنفسنا من هذا كله بحل سهل وبسيط هو إرتداء الكمامة ونظافة الأيدى والحفاظ على التباعد عند انتشار الفيروس .....
الهام المليجى