المال .. وظيفة فى الحياة
عرف فضيلة الإمام الجليل محمد متولى الشعراوى ببلاغة كلماته وبساطة أسلوبه وجمال تعبيره وقد استطاع من خلال تقديم خواطره فى تفسير القرءان الكريم الوصول إلى أكبر شريحة من المسلمين فى جميع أنحاء العالم العربى وكلما أطل علينا الشيخ فى إحدى تسجيلاته القديمه والملائكيه يرتدى جلبابه الأبيض المتميز ويتكأ على أريكته ممسكاً بإحدى يديه كتاب الله والآخرى يشرح بها تتهافت عليه قلوبنا وحلقت حوله عقولنا من فيض ما فتح عليه الرحمن من فتوحات ربانيه
إن حب المال يدفع صاحبه إلى كنزه مما يفقده وظيفته فى الحياة لأن للمال وظيفة فى حركة الحياة فإذا حبسته عن وظيفته أفسدت هذه الحركة بمنعك وإغلاقك لأبواب الرزق فى أوجه الناس فالإنسان فى كل مال ينفقه يفتح أبواب الرزق فى المجتمع سواء أراد أو لم يرد سواء كان ذلك بقصد أو بغير قصد فالذى يريد أن يبنى عمارة مثلاً ليس فى باله نفع المجتمع ولكنه يريد أن يصبح صاحب عمارة يريد أن يصبح مالكا وله ضمان فى الدنيا يقيه شر الفقر .
ولكن ماذا يفعل فى الحقيقة ؟ إنه يفتح أبواب الرزق أمام المهندس الذى سيضع له الرسم وأمام أصحاب الأرض وأمام الذين يحفرون الأساس وأمام الذين يضعون الخرسانة والحديد وأمام البنائين الذين يقومون بالبناء والحدادين والنجارين وعمال الأدوات الصحية وعمال الأرضيات وأمام المصانع التى تنتج الأسمنت والحديد والزجاج والالمنيوم والطوب غير ذلك .. إنك بهذا العمل قد فتحت أبواب الرزق لألوف من العمال ومئات من الفنيين وعشرات من المصانع فتدور حركة الحياة وينتفع المجتمع كل المجتمع بأنك قد بنيت عمارة بينما هذا لم يكن فى بالك ولكن المجتمع استفاد فأنت إذا أنفقت أوجدت حركة رخاء وانتعاش ولو لم يكن ذلك فى بالك ولكن إذا اكتنزت المال أوجدت حركة انكماش وفقر فى المجتمع انك اذا حبست المال عن وظيفته ترتكب إثماً كبيرا فى حق المجتمع وحق الناس والله سبحانه وتعالى لا يريد للمجتمع الإسلامى ان يكون مجتمعاً فقيرا منكمشاً ضيق الرزق أما اذا أحببت المال فالحبيب يريد دائما ان يكون مع من يحب ولذلك فإنك ستكنزه وتمنعه عن أداء وظيفته ثم ماذا يحدث يوم القيامة ؟ يقول الله سبحانه وتعالى فى شأن هؤلاء الكانزين : " وَالَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ وَلاَ يُنفِقُونَهَا فِي سَبِيلِ اللّهِ فَبَشِّرْهُم بِعَذَابٍ أَلِيمٍ . يَوْمَ يُحْمَى عَلَيْهَا فِي نَارِ جَهَنَّمَ فَتُكْوَى بِهَا جِبَاهُهُمْ وَجُنوبُهُمْ وَظُهُورُهُمْ هَذَا مَا كَنَزْتُمْ لأَنفُسِكُمْ فَذُوقُواْ مَا كُنتُمْ تَكْنِزُونَ " ( من الآية 34 والآية 35 سورة التوبة )
وحب المال يجعلك تبحث عنه بأية وسيلة لا تفرق بين الحلال والحرام ولا بين الطيب والخبيث فتجمع المال من أى مكان ومن أى مصدر لا يهمك إلا أن تزيده حتى بإنتهاك حرمات الله وتظلم وتفسد فى الأرض وتفعل أى شئ فى سبيل المال حينئذ يذهبه الله عنك فى الدنيا ويزيل نعمته .
المال والنفوذ نعمة .. أم نقمة ؟
ان الناس تعتقد أن الخير فى المال مع أن الحقيقة غير ذلك لأن المال قد يكون نقمة عليك بدلاً من أن يكون نعمة وتعتقد أن رضا الله فى الثروة والنفوذ والسلطان مع أن ذلك قد يكون عدم رضا .
الله سبحانه وتعالى قد بين ذلك فى كتابة العزيز وأعطانا الأمثلة على أن المال يمكن أن يكون هو الطريق للكفر والطغيان والمعصية والأمثلة كثيرة ولكننا سنتحدث عن بعض منها واقرأ قول الحق تبارك وتعالى : " أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِي حَآجَّ إِبْرَاهِيمَ فِي رِبِّهِ أَنْ آتَاهُ اللّهُ الْمُلْكَ إِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّيَ الَّذِي يُحْيِـي وَيُمِيتُ قَالَ أَنَا أُحْيِـي وَأُمِيتُ قَالَ إِبْرَاهِيمُ فَإِنَّ اللّهَ يَأْتِي بِالشَّمْسِ مِنَ الْمَشْرِقِ فَأْتِ بِهَا مِنَ الْمَغْرِبِ فَبُهِتَ الَّذِي كَفَرَ وَاللّهُ لاَ يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ" ( الآية 258 سورة البقرة )
هذا الرجل لا يهمنا من هو لأن قصص القرآن لا تهتم بأشخاص بعينها ولكنها تعطينا سلوكا إيمانيا والقصة فى القرآن تتكرر فى كل زمان ومكان فهى عامة وليست قائمة على خصوصية أبطالها إلا قصة مريم ابنة عمران وعيسى بن مريم عليهما السلام ولذلك فإنها القصة الوحيدة التى خصصت وعينت أشخاصها فى القرآن الكريم لأنها لا تتكرر أبداً .
هذا الرجل حين جاء إبراهيم عليه السلام ليهديه إلى منهج الله وقف يقارع ابراهيم بالحجة مقاوما لمنهج الله لقد اعطاه الله سبحانه وتعالى الملك ومع الملك النفوذ والسلطان والمال ولكنه بدلا من أن يشكر الله على نعمه ويعترف بفضل الله عليه بدأ يجادل ابراهيم بالحجة حجة الكفر فكأن الملك الذى أعطاه الله له لم يجعله يؤمن بل جعله يكفر والعياذ بالله وينكر وجود الحق سبحانه وتعالى . وعندما لفته ابراهيم عليه السلام إلى أن الله تبارك وتعالى هو الذى يعطى الحياة وهو الذى يأخذها لم يجعله ذلك يعترف بعظمه الحق سبحانه وتعالى فى انه هو المحيي المميت فقال : " أنا أحيي وأميت " كيف يمكن لإنسان ان يحي ويميت ؟ قال الكافر الذى وهبه الله الملك إئتونى بهذا الرجل ثم قال اقتلوه وقبل أن ينفذ القتل قال عفوت عنك ثم التفت إلى ابراهيم مدعياً انه يحي ويميت وأنه بإصدار حكم الإعدام على الرجل قد اماته وبعفوه عنه قد اعاد اليه الحياة .. أى أحياه !!
وهكذا لم تزد النعمة ولا الملك ولا المال هذا الرجل إيمانا وشكرا لله سبحانه وتعالى ولكنه زادته كفراً والعياذ بالله ..
وحين تحداه إبراهيم عليه السلام بآية كونية فوق طاقة البشر وهى الشمس وقال له ان ربى يأتى بالشمس من المشرق فأت بها من المغرب حينئذ صدمته الحقيقة فبهت لأنه لم يكن ينتظر ولم يلتفت إلى آيات الله فى الكون .
إن الله سبحانه وتعالى يذكرنا بأن الإنسان اذا اغتر المال واتخذه عنوانا للقوة والنفوذ ونسى فضل الله جل جلاله عليه فى أنه هو الذى رزقه بهذا المال فإنه فى هذه الحالة يطغى والطغيان هو تجاوز الحد أى أن تأخذ ما ليس لك حق فيه ولذلك يقول الحق جل جلاله : " كَلَّا إِنَّ الْإِنسَانَ لَيَطْغَى. أَن رَّآهُ اسْتَغْنَى" ( الآية 6و7 سورة العلق )
ان المال يطغى الانسان ويجعله يحسب انه يستطيع ان يفعل أى شئ بقوته الذاتيه ولماذا لا وهو يملك المال الذى يستطيع ان يحقق به ما يريد حينئذ يحسن انه قد استغنى عن الله سبحانه وتعالى ولم يعد فى حاجة إلى عونه ولا إلى رضاه فيطغى ويغتر .
ولعل قصة قارون ترينا هذا بوضوح فقارون منحه الله من الأموال ما لا يمنح أحدا من خلقه فهل زاده هذا النعيم إيمانا ً وشكراً وذكراً لله ؟ أم جعله يغتر وينسب المال لنفسه ويقول أنه قد حصل عليه بعلم من عنده وبقوته الذاتية وليس بفضل الله ! وهذا هو القرآن الكريم .. يروى لنا قصة قارون : " إِنَّ قَارُونَ كَانَ مِن قَوْمِ مُوسَى? فَبَغَى? عَلَيْهِمْ ? وَآتَيْنَاهُ مِنَ الْكُنُوزِ مَا إِنَّ مَفَاتِحَهُ لَتَنُوءُ بِالْعُصْبَةِ أُولِي الْقُوَّةِ إِذْ قَالَ لَهُ قَوْمُهُ لَا تَفْرَحْ ? إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْفَرِحِينَ " ( الآية 76 سورة القصص ) لقد اعطى الله سبحانه وتعالى لقارون كنوزاً وأمولاً لم يعطها لأحد من عباده ولكن هذه الأموال جعلته بدلاً من أن يسجد لله شكراً يغتر ويبغى على الناس ويفسد فى الأرض وعندما ذكروه بمنهج الله عليه قال كما يروى لنا القرآن الكريم : " قَالَ إِنَّمَا أُوتِيتُهُ عَلَى? عِلْمٍ عِندِي" ( من الآية 78 سورة القصص ) . قارون نسب الفضل لنفسه ونسى فضل الله عليه وحسب أنه استغنى عن الله جل جلاله فبماذا جازاه الحق سبحانه وتعالى على طغيانه وكفره واقرأ قول الحق يحكى عاقبة قارون : " فَخَسَفْنَا بِهِ وَبِدَارِهِ الأَرْضَ فَمَا كَانَ لَهُ مِنْ فِئَةٍ يَنْصُرُونَهُ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَمَا كَانَ مِنَ الْمُنْتَصِرِينَ " ( الآيه 81 سورة القصص ) إن المال فى كثير من الأحيان يكون نقمة على صاحبه لأنه فى حالة ضعف إيمانه يحس أنه استغنى عن الحق سبحانه وتعالى ويكفر بالله وينسب الفضل لنفسه ثم بعد ذلك يموت تاركاً ماله .. ويلقى الله فى الأخرة وحده بلا مال ولا جاه ليعذب أشد العذاب فهل كان المال فى هذه الحالة نعمة أم نقمة ؟
ان الإنسان أحيانا اذا كان رزقه قليلا فإنه يحس بحاجته إلى الله فإذا جاءه المال أفسد حياته وحياة أهله وربما دفع هذا المال الكثير ابناءه إلى ادمان المخدرات أو القمار .. أو يصيبه الله بداء بلا شفاء فينفق مئات الألوف من الجنيهات وهو يتناول الدواء المر لا يبرأ وهو يصرخ من الألم وهو محروم من كل شئ فى بيته كل ما تشتهيه النفس البشرية من طعام أو شراب ولكنه محروم منه لا يستطيع أن يضع لقمه فى فمه ولا يستطيع أن يأكل قطعة من اللحم الذى يحبه واذا أكلها سببت له آلاما لا تطاق أهذا خير؟ هذه الأمثلة وغيرها التى يعطيها لنا القرآن الكريم والتى سنتناولها بالتفصيل تؤكد لنا أن المال ليس خيراً مطلقاً كما يتوهم بعض الناس فقد يلعن الانسان اليوم الذى جاءه فيه هذا المال الوفير الذى حطم حياته وسلبه راحته وجلب له ولأولاده الشقاء .. هذه هى عقوبة الدنيا فما دام هو لم يرع الله فى مال فالله لا يرعاه فى هذا المال بل يسلطه عليه ليقوده إلى جهنم والعياذ بالله .