إصلاح ذات البين
· تقع الخلافات بين الناس ويحدث الخصام بين الزوجين وبين الأقرباء وبين الجيران وبين العشائر بعضها ببعض وهذا أمر نشاهدة ولا سبيل لإنكار وجودة وغالباً ما تكون بداية هذه الخلافات بسيطة يمكن تجنبها لو أحسن الناس التصرف ولكن الشيطان الذى كما أخبر الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم قد يئس أن يعبده المسلمون فاكتفى بالتحريش بينهم بمعنى الإغراء وتغيير القلوب والقطيعة بينهم هذا الشيطان لن يدع فرصة الخلاف تفوت عليه ولن يتوانى هو وأعوانه من شياطين الإنس عن إذكاء نار الفتنة حتى تتحول الشرارة الصغيرة إلى فتنة عظيمة وشر مستطير فيغلب سوء الظن وتحل القطيعة ويتحول الحال : فبعد المحبة والصفاء تحل العداوة والبغضاء وبعد الوصال تكون القطيعة ويصبح أصدقاء الأمس أعداء اليوم .
· لهذا حرص الإسلام على وحدة المسلمين وأكد على أخويتهم وأمر بكل ما يؤلف بين القلوب ونهى عن أسباب العداوة والبغضاء ولتحقيق ذلك حث على السعى لإصلاح ذات البين وجعل درجته أفضل من درجات الصلاة والصيام والصدقة قال تعالى :" إنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ فَأَصْلِحُوا بَيْنَ أَخَوَيْكُمْ وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ " (الحجرات:10) , وقال الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم : " ألا أخبركم بأفضل من درجة الصيام والصلاة والصدقة قالوا : بلى يا رسول الله , قال : إصلاح ذات البين إذا تقاطعوا " .
· الإصلاح بين الناس هو فرع من فروع الأمر بالمعروف والنهى عن المنكر الذين فرضهما الله تعالى على المسلمين لكى يعم خيره الدين والدنيا , ويعود نفعه على الفرد والمجتمع لأنه مبعث الأمن والإستقرار ومنبع المحبة والألفة ومصدر الظمأنينة والهدوء ودليل الأخوة الصادقة والإيمان الصحيح .
· كان من هديه صلى الله عليه وسلم والصحابة الكرام من بعده السعى فى الإصلاح بين المتخاصمين وقد باشره بنفسه الشريفة حيث خرج للإصلاح بين أناس من بنى عوف حتى تأخر عن صلاة الجماعة وحين تنازع أهل قباء ندب أصحابه وقال : " إذهبوا بنا نصلح بينهم ".
· إن التنازع مفسد للبيوت والأسر, مهلك للشعوب والأمم , سافك للدماء ومبدد للثورات قال تعالى : "لاَ تَنَازَعُواْ فَتَفْشَلُواْ وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ وَاصْبِرُواْ إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ" . (46 سورة الأنفال ) وبالخصومات والمشاحنات تنتهك حرمات الدين والدنيا ولذلك سمى الرسول الكريم فساد ذات البين بالحالقة فقال صلى الله عليه وسلم : " ألا أخبركم بأفضل من درجة الصيام والصلاة والصدقة , قالوا بلى يا رسول الله قال : إصلاح ذات البين , فإن فساد ذات البين هو الحالقة , لا أقول تحلق الشعر ولكن تحلق الدين ".
· إن الأمة تحتاج إلى إصلاح يدخل الرضا على المتخاصمين ويعيد الوئام إلى المتنازعين إصلاح تسكن به النفوس وتألف به القلوب إصلاح يقوم به عصبة خيرون شرفت أقدارهم وكرمت أخلاقهم فهم بهذه المساعى يبرهنون على نبل الطباع والسجايا قوم مصلحون ذو خبرة وإيمان وعقل وصبر .
· أن بعض الناس فى هذه الأيام فسدت ضمائرهم وخبثت نياتهم فتراهم يحبون الشر ويعملون على نشره بين الناس ومن أجل ذلك يتركون المتخاصمين فى غضبهم حتى يستفحل الشر فينقلبوا من الكلام إلى الشتم ومن الشتم إلى اللطم .. إلى السلاح , والناس أثناء ذلك وقوف يتفرجون ويتسقطون الأخبار بل قد يلهبون نار العداوة حتى يقهر القوى الضعيف ثم يقهرهم الشر جميعاً وقد كان يكفى لمنع ذلك كله كلمة من نبيل مصلح ولكن كما قال تعالى : " وَالصُّلحُ خَيرٌ وَأُحضِرَتِ الأَنفُسُ الشُّحَّ ".(128 سورة النساء) وما تمكن الخلاف من أمة إلا كان نذير إنحلالها وسبب عذابها لأنه يفرق كلمتها ويفكك صفوفها ويشتت شملها ويجعلها لقمة سائغة لأعدائها .
· وما دام المؤمنون إخوة فإنهم قد أمروا فيما بينهم بما يوجب تآلف القلوب وإجتماعها ونهوا عما يؤدى إلى تنافر القلوب وإختلافها وذلك بالحرص على الإصلاح بين الناس لتعم الطمأنينة والأمن والهدوء والإستقرار والألفة والمحبة فى المجتمع ولكن لهذا الإصلاح فقه ومسالك دلت عليها نصوص الشرع وسار عليها المصلحون المخلصون فمن فقه الإصلاح : صلاح النية وإبتغاء مرضاة الله وتجنب الأهواء الشخصية والمنافع الدنيوية أما من قصد بعمله الترؤس والرياء والاستعلاء فبعيد أن ينال ثواب الآخرة وحرى ألا يحالف التوفيق مسعاه قال تعالى : " يَفْعَلْ ذلِكَ ابْتِغاءَ مَرْضاتِ اللَّهِ فَسَوْفَ نُؤْتِيهِ أَجْراً عَظِيماً" . ( 114 سورة النساء ) مرضاة الله فسوف يؤتيه أجراً عظيماً ".
· إن من الخير فى باب إصلاح ذات البين أن يسلك المصلح مسلك السر والكتمان فمن عرف الناس وخير أحوالهم لا سيما فيما يجرى بينهم من منازعات وخصومات أدرك دقة هذه المهمة لأن من الناس من يحب الغلبة وإنتصار النفس ولو على حساب الحق ومنهم من يصر على أن تأتى المبادرة من خصمه ولهذا أذن الشارع الحكيم بضرب من الكذب المحمود فى العبارات والعهود قال تعالى :" لَا خَيْرَ فِي كَثِيرٍ مِنْ نَجْوَاهُمْ إِلَّا مَنْ أَمَرَ بِصَدَقَةٍ أَوْ مَعْرُوفٍ أَوْ إِصْلَاحٍ بَيْنَ النَّاسِ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ ابْتِغَاءَ مَرْضَاةِ اللَّهِ فَسَوْفَ نُؤْتِيهِ أَجْرًا عَظِيمًا " ( 114 سورة النساء ) وقال صلى الله عليه وسلم: " لا يصلح الكذب إلا فى ثلاث : رجل يصلح بين اثنين والحرب خدعة والرجل يصلح زوجته " .
· وأخيراً نقول كما قال الإمام الأوزعى رحمه الله (8-157 هـ ) :" ما من خطوة أحب إلى الله تعالى من خطوة فى إصلاح ذات البين " وإذا كان الأمر كذلك فمن الذى لا يسعى فيه إلا من قست قلوبهم وخبثت نفوسهم وساءت نياتهم حتى كأنهم لا يحبون إلا الشر ولا يسعون فيه إلا فى فساد فترى فئات منهم لا يكتفون بالسكوت بل فى أجوائهم يستفحل الخصام ويقسو الكلام وما أشبه هؤلاء بأعداء الأمة المتربصون بها وأهل النفاق إنهم يلهبون نار العداوة كلما خبت أوقدوها .
· فما أحوجنا إلى هذا الخلق العظيم : " إصلاح ذات البين " الذى كان دأب النبيين والصالحين فمن أراد الثواب العظيم والذكر الحسن وراحة القلب فليحلم على الجاهل وليعف عن السئ وليقبل الصلح اتباعاً لقول الحق سبحانه وتعالى : " فَمَنْ عَفَا وَأَصْلَحَ فَأَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ " (40سورة الشورى ( .
محمد موسى