رقم فى لستة
فى عجالة من أمره ، وهو يٌدندن ويتمايل ، أخذ هشام يفحص ليتأكد من وجود جميع أصول وصور الأوراق المطلوبة لوظيفة محاسب بأحدى المصالح الحكومية المعلن عنها بالجريدة الرسمية .....فالحياة لونها بمبى .. وها قد أقترب من تحقيق حلم كان ينتظره ، هشام كله آمل وثقة أن تكون الوظيفة من نصيبه ، فقد بذل ما فى جهده من تعب وكفاح خلال مراحل تعليمه المختلفة ، والحصول على شهادة بتقدير عال وإكتساب مهارات فى الكمبيوتر واللغات .... وآن الأوان أن يحصٌد ، ليضع أولى خطواته نحو مستقبل كان يخطط له .... ليتلقى التهانى والجلوس على مكتب "زى الباشا" .... وألقى نظرة سريعة على هندامه وقلبه يقفز سروراً ، ولمعان عينيه تكشف سعادته وفرحه.... وبغمزة عين يقول .. يا سلام متفصلة عليك يا أتش .
وسار هشام فى طريقه وهو يرسم ويهيء نفسه ويتخيل حياته بعد أن ينال الوظيفة ... وسط نسمات الصباح العليلة ، مع سماء صافية خالية من أى غيوم معلنة بنهار أبيض "زى الفل" وإحساس بأن الفرح والسرور لكل من حوله ...... وأمام بوابة أحدى البنايات القديمة ، إذ بتجمع بشر لا حصر له ... وسط صراخ موظف الأمن محاولاً تنظيم الواقفين ... تلفت هشام حوله بخطوات تائهة مترددة ، لا يعرف أوله من آخره ... تتلاقى الوجوه وتتسارع الأيادى وتلتصق الأجساد من كل اتجاه وكل لون ..... ولكن يجمعهم حلم وهدف واحد هو الحصول على الوظيفة المضمونة !!!!! وبعد أن أنهكه الوقوف لساعات طويلة ... ضاع خلالها هندامه وشعره الممشط بالجل ..... ودون أن ينظر إليه وبوجه متجهم عبوس تناول الموظف الأوراق منه ثم بنفس الطريقة أعادها إليه وأخبره أن عليه أن يصور الأصول صورة إضافية ... فحملق هشام باستغراب وهو ينفخ ضجراً رداً عليه : الإعلان مكتوب فيه...... ولم يكمل كلامه حتى قاطعه الموظف مؤكداً له بحدة : عليك أن تفعل لُتقبل الأوراق .... ولأن الوقت لم يسعف هشام ، فقد قاربت مواعيد العمل على الانتهاء وما عليه سوى أن يعود غداَ ليكرر ما فعله اليوم ؟!!!!
وكلاكت ثانى مرة ... وقف هشام هذه المرة وقد تسرب إليه الإحباط ... وكان على علم بطول المدة التى سوف يقف فيها ، فبادر بتبادل أطراف الحديث مع من حوله من شباب لكسر ملل الإنتظار ..... ... فالأحلام تجمعهم وهم يحبوا بخطواتهم الأولى نحو رسم مستقبلهم .... ليواجهوا صدمة أن عليهم أن يكون له قريب أو نسيب من أصحاب النفوذ ليكون من المحظوظين ... وهنا قال أحدهم بصوت جهورى محبط ويدعوا لليأس متحدثأ لكل من حوله : أسمعوا.. من الأخر الوظيفة محجوزة لناس بعينها ..... عايزين كام واحد ... وفاتحين التقديم أسبوعين ... طب إزاى .. ده كُل مصر هتقدم ... هنا تمنى هشام أن يغلق فمه ليسكُت .... ليتسألوا بين أنفسهم طب نعمل أيه تانى ؟! تعليم وأتعلمنا ! ناقص أية تانى ؟! طب ده حتى شغل المتاح اليومين دوول لزيادة الدخل للأغنياء ... لأصحاب العربيات أحدث ماركات ؟؟ وبيطلب فى شركات أوبر وكريم !! وتقدر تقول عليه بيشتغل سواق ... لأ طبعاً ... ده بيه بيزود دخله ؟! وأحنا معانا ربنا ! حسبى الله ونعم الوكيل !!!!
هنا أصبحت الدنيا فى عيون هشام سوداء لا ترى فيها شمس ولا قمر ... لحظات تمر عليه بطيئة تحيطه الناس من كل اتجاه .. يريد أن يبعد ويخبوا ويختفى بعيداً... ولا يستطيع ... وما عليه إلا أن يكتم أحزانه بداخله .... فقد مرت ساعات النشوة والفرح ببداية تحقيق أحلامه وطموحاته كأنسان يريد أن يكون له أمل فى العمل والزواج ، وفجأة تصطدم بالواقع المرير الذى يدركه ويفهمه ولكن لم يستطع أن يحسب حساباته جيداً ............
ووقف هشام بعد عدة أيام ... أمام أحد الموظفين ليخبره بالبحث عن رقمه وترتيب دخوله المقابلة الشخصية فى اللستة المعلقة على الحائط المقابل ... وبعد أن عرف هشام ترتيبه فى أواخر الكشف وسط عدد ليس بالقليل منتظراً دوره... أتكأ برأسه على جدار بعيداً نوعا ما ، لا يريد هذه المرة أن يختلط أو يتحدث لأحد ..... وقد حاول أن يراجع يستعد جيداً..... وبعين متابعة لما حولها ...... شاهد لهفة الواقفين وهم يتلقفوا الخارجين تواً من المقابلة ، محاولةً منهم معرفة نوعية الأسئلة ... وهل اللجنة صعبة ... وهل لاحظوا فيه محاباة لأشخاص بعينهم .... وكلما مر الوقت بطيئاً تسلل إليه اليأس وشعر أنه لا فائدة وهو يرى تكالب الشباب فى بحثهم لبعض الموضوعات التى طُرحت ... وتكثر الاتصالات التليفونية بين الواقفين قبل دخولهم اللجنة ... ويزداد الضغط النفسى والعصبى لهشام ... وأحيانا يتملكه أحساس بخيبة الأمل كلما رأى أحد الأشخاص خارجاً لتوه ونشوة التأكد من أنه أحد المقبولين ً ، وأحيانا أخرى تراوده نفسه بأنه سيكون أحد المقبولين .... لحظات شد وجذب مع النفس ... القبول والاستسلام للواقع .... والتمرد ورفضه ومحاولة تغييره ... يفكر فى الإنسحاب ويأخذ خطوة للوراء ... وفى أخر لحظة يتردد ... وهكذا مرت لحظات الانتظار ثقيلة طويلة ، يريد أن يفيق منها ... وجاء دور هشام وإذ بدقات قلبه تعلوا وتعلوا تكاد أن يسمعها من حوله ، والقلق والخوف يتملكه وتعرق راحتا يديه ويحس بالآم فى فُم معدته ... وما أن رأى أعضاء اللجنة تذكر ما كان يؤمن به
”أن عليه أن يسير وسط الصعوبات فى شبابه ولا يتوقف ....
ويجرى ويقفز حتى وإن كانت خطوات عشوائية ولكن لا يظل فى مكانه أبداً إلى أن يجد بوصلة الطريق... وقد تشعر بالأحباط عندما تتعرض للفشل ،
لكنك ستحكم على نفسك بالفشل إن لم تعد المحاولة مجدداً"
فجلس شامخاً.. يرد عليهم بثقة الواثق المتمكن من أدواته ، وسط دهشتهم من ثباته وعزيمته .... فخطف إعجابهم وأجبرهم على الإشادة به ..... وتركهم وهو معجب بقوته وإجتيازه موقف عصيب مر بحياته أياً كانت نتيجته ..........
وعلى بعد خطوات لمحه صديق يكبره بعدة سنوات جالس على أحد المقاهى فنادى عليه ... وأقترب منه واسترسل هشام فى سرد ماحدث له وأنه انتهى لتوه من المقابلة الشخصية .... وإذا بصاحبه ومرارة اليأس البائس منذ سنوات طويلة يقول : تعالى ... تعالى ... شد لك كرسى وأقعد جانبى هنا يافندى وأنضم لنادى العاطلين ... وضحك هشام محاولاً تناسى ما حدث ، متطلعاً عما تخبئه له الأيام القادمة .. .... !!!!!!
الهام المليجى