الحياة الحقيقية
" وَإِنَّ الدَّارَ الْآخِرَةَ لَهِيَ الْحَيَوَانُ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ " "العنكبوت الآيه 64"
عرف فضيلة الإمام الجليل الشيخ محمد متولى الشعراوى ببلاغة كلماته وبساطة أسلوبه وجمال تعبيره وقد استطاع من خلال تقديم خواطره فى تفسير القرآن الكريم الوصول إلى أكبر شريحة من المسلمين فى جميع أنحاء العالم العربى وكلما أطل علينا الشيخ فى إحدى تسجيلاته القديمة والملائكية يرتدى جلبابه الأبيض المتميز ويتكأ على أريكته ممسكاً بإحدى يديه كتاب الله والآخرى يشرح بها تتهافت عليه قلوبنا وحلقت حوله عقولنا من فيض ما فتح الرحمن عليه من فتوحات ربانيه .. وفي هذا العدد يحدثنا عن الحياة الحقيقية فيقول فضيلته:
إن كثيراً من الناس لا يصلح بفكره وعقله أن يحدد أين الخير ؟ وتلك حقيقة تلفتنا إلى أن المقاييس الدنيوية كلها مقاييس لا تصلح للحكم على الخير والشر , الله سبحانه وتعالى يحدد لنا ذلك فى قوله عز من قائل : " وَإِنَّ الدَّارَ الْآخِرَةَ لَهِيَ الْحَيَوَانُ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ " ( من الآيه 64سورة العنكبوت ) أى أن الآخرة هى الحياة الحقيقية التى يجب أن يسعى إليها الإنسان لأنك يقينا ستلاقيها ولأنك ستعيش فيها أبدا فعمر الإنسان فى الدنيا قد يكون ساعات وقد يكون سنوات طويلة ولكن حياته فى الآخرة دائمة والنعمة فى الدنيا قد تزول عنك وقد تزول أنت عنها بالموت ولكن النعيم فى الآخرة لا يزول عنك أبدا .
ولكن هل نحن نأخذ الدنيا بهذا المقياس ؟ قليل منا من يفعل ذلك أما الأكثرية فإنها تأخذ الخير بمقاييس الدنيا وحدها ويتمثل الخير عندها فى المال والنفوذ الدنيوى أما غير ذلك فلا يلتفت إليه , فمن أعطاه الله مالاً ووسع عليه رزقه يعتبر أن هذا رضا وكرم من الله سبحانه وتعالى ومن لم يعطه المال ولم يعطه سعة فى الرزق اعتقد أن هذا غضب من الله وإهانه وفى ذلك يقول الله سبحانه وتعالى : " فَأَمَّا الْإِنْسَانُ إِذَا مَا ابْتَلَاهُ رَبُّهُ فَأَكْرَمَهُ وَنَعَّمَهُ فَيَقُولُ رَبِّي أَكْرَمَنِ (15) وَأَمَّا إِذَا مَا ابْتَلَاهُ فَقَدَرَ عَلَيْهِ رِزْقَهُ فَيَقُولُ رَبِّي أَهَانَنِ (16) كَلَّا بَل لَا تُكْرِمُونَ الْيَتِيمَ (17) وَلَا تَحَاضُّونَ عَلَى طَعَامِ الْمِسْكِينِ (18) وَتَأْكُلُونَ التُّرَاثَ أَكْلًا لَمًّا (19) وَتُحِبُّونَ الْمَالَ حُبًّا جَمًّا (20) " ( الأية من 15- 20 سورة الفجر ) هذه الآيات الكريمة لابد أن نتوقف عندها طويلا لأن الله سبحانه وتعالى يصحح للإنسان مفهوم الخير والشر ذلك المفهوم الذى يضيع من كثير منا , الله تبارك وتعالى يقول : " فأما الإنسان إذا ما ابتلاه ربه فأكرمه" . معنى ذلك أن الخير وسعة الرزق وكل جاه الدنيا هو ابتلاء من الله سبحانه وتعالى لعباده والإبتلاء هو الإمتحان والإبتلاء فى ذاته ليس مذموما ولكن نتيجته هى التى تجعله مذموما او محمودا . الله جل جلاله يمتحن عباده فى الدنيا بالخير والشر أى بما يعتقدون أنه خير لهم وبما يعتقدون أنه شر لهم , مصداقا لقوله سبحانه وتعالى : " ونبلونكم بالشر والخير فتنه " ( من الآيه 35 سورة الأنبياء ) . أن الخير هو إمتحان للناس كالشر تماماً لأن الحياة الدنيا كلها إبتلاءات للبشر وإمتحانات وسليمان عليه السلام حينما احضر له العبد الصالح عرش بلقيس فى طرفه عين , عرف أن الله يبتليه أين الإبتلاء أو الإمتحان هنا ؟ لقد ادرك سليمان عليه السلام أن هناك من هو مفضل عليه فى العلم وهو العبد الصالح الذى جاء له بعرش بلقيس فى طرفة عين . الإبتلاء هنا هو أن سليمان عليه السلام عرف أن هناك من عباد الله من هو مفضل عليه فى العلم وكان فى هذه الحالة إما أن يشكر الله سبحانه وتعالى لأنه لفته على ألا يغتر بما أعطاه الله من ملك ويعرف أن الله سبحانه وتعالى لأنه لفته على ألا يغتر بما أعطاه الله من ملك ويعرف أن الله سبحانه وتعالى يعطى ما يشاء لمن يشاء فلا يركبه الغرور الذى هو بداية الكفر والعياذ بالله وإما أن يثور على ماحدث ويقول ربى كيف تعطينى كل هذا الملك ثم تأتى لعبد من عبادك فتميزه عنى ؟ وحينئذ يكون قدر رد الآمر على الأمر ودخل فى الكفر . سليمان عليه السلام تنبه إلى هذا الإمتحان لذلك فقد قال كما يروى لنا القرآن الكريم : " ومن شكر فإنما يشكر لنفسه " ( من الآيه 40 سورة النمل ). معنى ذلك أن شكر الله سبحانه وتعالى لا يزيد فى ملكه شئ بل إن شكرك لله تبارك وتعالى وحمدك وثناءك عليه لا يزيد من قدره جل جلاله لأن الله هو الكمال المطلق إنما الشكر يعود على صاحبه بالثواب الذى يعطيه الله إياه وحسن الجزاء وكذلك الكفر لا يضر الله شيئا لأن الله له مطلق الكمال فلو كفر كل خلق الله ما نقصوا من ملكه شيئا , فالله غنى عن العالمين ولذلك يقول الحق تبارك وتعالى : " ومن كفر فإن ربى غنى كريم " (من الآيه 40 سورة النمل ) . ولكن الإنسان إذا اكرمه الله سبحانه وتعالى وأعطاه النعمة فإنه يقول : " ربى أكرمن " وإذا قدر عليه رزقه أى أصبح الرزق قليلاً يقول : " رب أهانن " . هذه هى مقاييس الخير والشر عند الإنسان سعة الرزق وكثرة النعم يعتبرها خيراً وعطاء ورضا من الله سبحانه وتعالى وضيق الرزق يعتبره غضباً من الله وعدم رضا منه . هنا يصحح الله تبارك وتعالى هذا المفهوم الخاطئ عند الناس فيقول : " كلا " أى إنكم تفهمون خطأ فلا كثرة الرزق والخير معناها الرضا ولا قله الرزق والخير معناها الغضب بل كلاهما إمتحان للإنسان ليكون شاهداً على نفسه يوم القيامة , هل يتقبل قضاء الله بالرضا والشكر ؟ .. أم يقبله بالكفر والجحود ؟ ثم يمضى الحق تبارك وتعالى مبيناً أسباب زوال النعمة عن الإنسان تلك الأسباب التى تضيع النعمة وتذهبها وأول الأسباب كما يرويها لنا القرآن الكريم : " كلا بل لا تكرمون اليتيم " لقد وضع الحق سبحانه وتعالى كفالة اليتيم كأول أسباب بقاء النعمة وإهانه اليتيم كأول أسباب زوال النعمة .. ولماذا ؟ ليحدث التكافل فى المجتمع .فلا يفترس القوى الضعيف .. ذلك أن اليتيم –وهو من فقد أباه وهو طفل – يكون منكسراً مكسور الجناح ضعيفاً يسهل على أى إنسان أن يأخذ ماله ويهينه ويفعل به ما يشاء لأنه لا حول له ولا قوة . والله سبحانه وتعالى يريد من كل من يعيش فى مجتمع إسلامى أن يكون مطمئناً على رعاية أولادة سواء كان موجوداً أو انتقل عن الحياه الدنيا لذلك جعل لرعاية اليتيم أعلى المنازل عند الله سبحانه وتعالى حتى أنك إذا مسحت على رأسه بحنان يكون لك حسنات بعدد شعر رأسه أى بكل شعرة حسنة ..
إن الله سبحانه وتعالى يلفتنا إلى عظم أجر رعاية اليتيم والحنو عليه وليس جزاء إهانة اليتيم فى الآخرة وحدها بل فى الدنيا أيضاً لأن الله تبارك وتعالى يزيل عنك النعمة إذا أهنت اليتيم وقسوت عليه وإقرأ قوله جل جلاله : " أرئيت الذى يكذب بالدين فذلك الذى يدع اليتيم " ( الآيه 1 , 2 سورة الماعون ) فكأن القسوة فى معاملة اليتيم لا يمكن أن يقدم عليها مؤمن بل يقدم عليها الذين يكذبون بالدين .
أسباب زوال النعمة :
ويلفتنا الحق سبحانه وتعالى إلى سبب آخر من أسباب زوال النعمة فيقول : " ولا تحضون على طعام المسكين " ( الآيه 18 سورة الفجر). أى لا يحض بعضكم بعضا على أن تطعموا ذلك الفقير الذى لا يجد ما يكفيه وبعض الناس يعتقد أن المسكين هو الذى لا يمتلك شيئا على الإطلاق ولكن المسكين هو الذى لا يملك ما يكفيه .. دليل ذلك قول الحق سبحانه وتعالى : " أما السفينة فكانت لمساكين يعملون فى البحر " ( من الآيه 79 سورة الكهف ) . أى أن المسكين هو الذى لا يملك ما يكفى لإقامه حياته .. لأن هؤلاء الرجال كانوا مساكين ومع ذلك كانوا يملكون سفينة . ومن أسباب زوال النعمة أن الناس تتكاسل بل وأحياناً تحض وتدعوا إلى عدم تقديم الطعام للمساكين والطعام هو أصدق السؤال لأن السائل إذا طلب منك مالاً فقد يكون كانزاً للمال وإذا طلب منك ثوباً فقد يكون غير محتاج إليه ولكنه يطلبه ليبيعه ولكن الذى يطلب منك رغيفاً ليأكله لابد أنه جائع لا يجد طعاماً , ولذلك فطلب الطعام هو أصدق السؤال فالذين يمنعون إطعام المساكين ويقفون فى سبيل ذلك يرتكبون إثماً كبيرا تزول به النعمة عنهم . ثم يقول الحق سبحانه وتعالى : " وتأكلون التراث أكلا لما وتحبون المال حباً جما " ( الآيتان 19 , 20 سورة الفجر ) . وهذه أيضاً من مذهبات النعمة أن تأكل بالباطل الميراث الذى يستحقه غيرك تأكل حقهم إذا كانوا صغاراً أو تتحايل لتأخذ جزءا من ميراثهم إن كانوا صغاراً أو تتحايل لتأخذ جزءا من ميراثهم إن كانوا كباراً خصوصاً أن صاحب المال قد مات ويمكنك أن تتلاعب دون أن تخشى أن يكشفك أحد من الناس وفى هذه الحالة تكون قد حصلت على مال حرام يعاقبك الله عليه فى الدنيا بأن يزيل النعمة عنك هذا غير حساب الآخرة .