مجموعة الغوري.. صرح مملوكي يتجمل في وسط القاهرة الفاطمية
مجموعة الغوري.. صرح مملوكي يتجمل في وسط القاهرة الفاطمية
لا يفوت الزائر لمنطقة القاهرة الإسلامية زيارة المجموعة الأثرية الفريدة للسلطان الغورى ذلك الموقع الفريد القابع في حي الأزهر و بالتحديد على ناصية شارع المعز التاريخي الذى يعتبر أطول شوارع العالم الأثرية و ظل شامخاً شاهداً على أحداث تاريخية وعمارة وتضم عدداً من المواقع الأثرية تتكون من قبة ووكالة وحمام ومنزل ومقعد وسبيل وكتاب وخانقاه, وتذكر الروايات التاريخية أن السلطان الغوري كان مغرماً بالعمارة وفنونها وهو ما شجع على إزدهارها في عصره، واقتدى به أمراء دولته. كما عنى السلطان بإنشاء الحدائق واقتناء الطيور المغردة. ويحتل الملك الأشرف أبو النصر قنصوه الغوري، المرتبة السادسة والأربعين في ترتيب ملوك المماليك، وهو من أصل جركسي وكان من مماليك السلطان الأشرف قايتباي، إلا أنه أعتقه وجعله من جملة المماليك المقربين إليه وقد تدرج فى المناصب الحاكمة بالدولة حتى اختير بالإجماع سلطاناً على مصر سنة 906 هجرية ، وقبل الغوري السلطنة بعد أن اشترط على الأمراء أن لا يقتلوه إذا أرادوا خلعه فقبلوا منه ذلك، وإستمر في منصبه مدة15 عاما و9 أشهر و25 يوما.
ويذكر التاريخ أن صفات الغوري الشخصية وطموحاته السياسية لم تكن السبب في توليه السلطنة كما كان الحال عند سابقيه من سلاطين المماليك، بل جاء اختياره من قبل أمراء المماليك ظناً منهم أنه ضعيف يمكنهم السيطرة عليه، إلا أنه أخلف ظنهم جميعاً، فكان قوي التدبير، ونجح في تثبيت حكمه، كما نجح في قمع أمراء المماليك والسيطرة عليهم حتى دانوا له.. كما إمتاز عهده بكثرة المظالم بين الناس التي شعرت بالبؤس في عهده.. وكانت نهايته على يد السلطان سليم الأول الذي هزمه في موقعة مرج دابق بالشام عام 922 هجريه، وأمر أحد عبيده بقطع رأسه.
والقراءة في ملفات هذا المسجد العريق تشير إلي أنه آخر مجموعة أبنية دينية كبيرة قبل الفتح العثماني لمصر سنة 1517، فقد شيد السلطان قنصوه الغوري في بداية القرن السادس عشر هذه المجموعة التي تشتمل علي جامع ومدرسة ووكالة ومدخل وسبيل وكتاب وخانقاه، حيث كان يقوم طلبة الصوفية بممارسة شعائرهم الصوفية. ونظرا لعنفوان وقوة السلطان الغوري فقد قام باختيار موقع متميز لهذه المجموعة الأثرية المتكاملة علي ضفتي شارع المعز الذي كان أهم شوارع القاهرة في أزمنة العصور الوسطي.. وقد أقيمت هذه المجموعة وفقاً لطرق التخطيط السائدة في القرن الخامس عشر وبالتحديد المسجد الذي يتميز بأربعة إيوانات مغلقة تتوسطها قاعة مغطاة، أما المئذنة فلها طابع متميز علي شكل مبخرة يعلوها خمس قباب بالشكل البصلى بدلاً من واحدة مثلما كان سائدًا في بقية المآذن في العصر المملوكي..
وقد فقدت إحدي البصلات وتبقي الآن أربع فقط وتعد هذه المئذنة من أروع وأجمل مآذن القاهرة، حيث أنها ضخمة عريقة كالمآذن الأندلسية، أما الخانقاه التي تواجه واجهة المسجد فهي تحتوي علي الضريح الذي كان معداً للسلطان الغوري ولم يدفن فيه أحد وكانت توجد قبة كبيرة تعلو هذا الضريح إلا أنها اندثرت في أوائل هذا القرن.. وكانت مغطاة بالقيشاني الأخضر الذي يندر استخدامه في العصر المملوكي مما جعلها متميزة من مسافة بعيدة وقد زُينت من الداخل بزخارف بديعة.. كما أن الضريح يزدخر بألواح الرخام المعشق الذي برع فيه المماليك وأكثروا من استخدامه لعدة قرون..
ويوجد السبيل والكتاب في الركن الشرقي من المبني في النصف المنفصل عن المجموعة وكان يُصرف منه الماء مجاناً لعابري السبيل.. أما الجزء العلوي فكان يستخدم ككتاب لتحفيظ القرآن للأطفال..
أما الوكالة التي تقع بالقرب من المجموعة فقد كان لها استخدامان شائعان أولهما أن التجار المسافرين كانوا يستخدمون الأدوار الأرضية لتخزين بضائعهم ويقيمون في الأدوار العليا.. وتنبع أهمية الوكالة من قربها من الجامع الأزهر الذي كان يحيط به مركز تجاري وتعد الوكالة ذات طراز نمطي يتكون من وحدات صغيرة يتوسطها فناء غير مغطي، كما أنه كان أبسط في زخرفته المعمارية من أبنية الخانقاه والضريح والمسجد.. وإذا عدنا إلي الحديث عن المسجد مرة أخري باعتباره أهم ما يميز المجموعة فنجده يتكون من صحن مكشوف مربع تتعامد عليه الإيوانات من جهاته الأربع ويحيط بدائرة الصحن من أعلي شريط كتابي ثم أربعة صفوف من الدلايات الخشبية المرصعة بالذهب، والإيوان الشرقي هو إيوان القبلة وفيه المحراب والمنبر.. الواجهة الشرقية للمسجد بها المدخل الرئيسي الذي يصعد إليه بسلم مزدوج ويؤدي المدخل إلي ردهة مربعة بها بابان أحدهما يؤدي إلي دهليز يوصل إلي حجرة مستطيلة والثاني يؤدي إلي دهليز يوصل إلي صحن المسجد وتعتبر مجموعة الغوري ككل مثالاً مشرفاً للعمارة المملوكية التي برع فيها السلاطين والحكام لتخليد اسمهم وملكهم.
وكون مجموعة الغوري تتوسط منطقة سكنية شديدة الإزدحام وتعتبر هذه المنطقة علي مر العصور مركزاً تجارياً وشعبياً هاماً لتوسطه القاهرة ومجاورتها لمنطقة وجامع الأزهر فقد نالت المجموعة يد الإهمال وعبثت بها أيدي الجهلاء من العامة وصارت التعديات عليها من كل حدب وصوب حتي كادت أن تفقدها ملامحها الأثرية الهامة .
وكان الخطر قد بلغ زروته حين ارتفعت وتذبذبت مناسيب المياه الجوفية داخل وحول الأثر نتيجة للإنشاءات الحديثة التي ضغطت علي القشرة الأرضية وأخلت بمستوي المياه الجوفية بالمنطقة كلها ، كما أثر عليه زلزال أكتوبر سنة 1992 ، ناهيك عن الورش والصناعات البدائية التي عرضت جدرانه ومبانية للتلف البيولوجي الكبير ، وهذا كله جعل الأثر معرضاً للخطر واستوجب أن تتدخل الدولة ممثلة في وزارة الثقافة لحماية المجموعة من الإنهيار .
وقد أسندت الوزارة ترميم وإعادة تأهيل المجموعة إلي شركة المقاولون العرب لتقوم بعمل الترميم المعماري والدقيق لكافة مشتملات المجموعة الأثرية ، حيث تمتلك شركة المقاولون العرب نخبة كبيرة تزيد عن الـ50 خبيراً ومتخصصاً في مجال ترميم الآثار ، بالإضافة إلي طاقم هائل من المهندسين والعاملين المهرة الذين يمتلكون سابقة أعمال كبيرة في مجال ترميم وصيانة الآثار المنقولة والثابتة بإدارة صيانة القصور والآثار
وقد بدأ فريق العمل فى البداية بالرفع المعماري وتوثيق مظاهر التلف وحالة الأثر قبل الترميم ، ثم قام بتحديد طرق العلاج ووضع الخطط المناسبة لترميمه ، كما قامت بتسجيل البيئة العمرانية المحيطة والتعرف عليها وتسجيل تفاعل الحياة الإجتماعية التي تندمج مع الأثر وتؤثر فيه ، وذلك بهدف التعرف على النظام الإنشائي الذى قام علي أساسه المجموعة ثم تلا ذلك بعملية الرصد والمراقبة للشروط والحركات للتأكد من ثبات الحركة داخل عقود وأعمدة ودعامات المجموعة ثم اختبار لمواد البناء وتحليل مواد تكوينها للتدخل بالصورة التي لا تغير من طبيعة الأثر الإنشائية وتحافظ علي وحدته المعمارية والأثرية .
تلا ذلك مرحلة العلاج التي شملت عمليات التأمين والصلب ثم عمليات التدعيم الإنشائي للأجزاء المتداعية وتقوية الأساسات والحوائط ثم عملية الترميم المعماري للأجزاء المدمرة والضعيفة ، ثم مرحلة الترميم الدقيق للأسقف والبراطيم المزخرفة التي تحمل ملامح وصفات العصر المملوكي
وكانت مرحلة التنسيق الحضاري والموقع العام أخر المراحل المتمه لأعمال الترميم للمجموعة الأثرية لإظهار الأثر بالشكل اللائق الذي يستحقه .
ولعل من أهم الطرق الحديثة التي استخدمتها شركة المقاولون العرب في ترميم هذه المجموعة إمكانية المعالجة بالتربيط بطريقة سنتيك هارك ثم دراسة معالجة فواصل الهبوط وقد استغرقت تلك الدراسات ثلاثة سنوات كاملة بينما استغرق تنفيذ أعمال الترميم أكثر من عشرة سنوات من عام 1993 وحتي عام 2003 ميلادية .
وقد تحولت الآن وكالة الغوري والتي تعد المبني الأهم والأكبر داخل المجموعة إلي قصر ثقافة الغوري الذي يقوم بدوره الإنساني والحضاري والثقافي في نشر الوعي الثقافي والفني بحي الغورية ويساهم بشكل أساسى فى الارتقاء بالحياة الثقافية والفنية لتنمية المواهب وتفاعل الطبقات المختلفة داخل المجتمع المصرى .
المصدر : وحدة ترميم الآثار بصيانة القصور والآثار .
قسم التوثيق والتدريب