المرأه . . وعصر الحريم
حزنت "مفيده" حزنا شديدا بعد أن رسبت فى مادة "الميكانيكا والهندسة" فى الثانوية العامة . . وتخوفت من رد فعل والدها وهو الذى يحلم لها بالإلتحاق بكلية الطب وإكمال دراستها للطب فى إنجلترا مع أختها والتى كانت من أوائل الدارسين للطب فى الثلاثينيات من القرن الماضى .
وكان يعلم والدها جيدا أن رسوب إبنته ليس إهمالا منها ولكن عدم القدرة والإستيعاب لهذه الماده . . وكان والد مفيده "عبد الرحمن محمد" الموهوب بجمال الخط ، والذى كتب المصحف بيده تسع عشره مره ثم نشره لملايين النسخ أن هون على إبنته الأمر. . . ولم تنتظر مفيده كثيراً فبعد عدة أيام تقدم لخطبتها "محمد عبد اللطيف بن الخطيب" وهو الكاتب الإسلامىصاحب مكتبة ومطبعة كبيرة ولأن سمة العصر فى الثلاثينيات هى الخطبه القصيره لتيسر الحال عند القاعدة العريضة من الشعب المصرى وقتذاك . . وتم زواج مفيده . . ولم يمضى وقت قصير إلا ومن يشاهدهما يظن أنهما تزوجا بعد قصة حب طويلة . . فهى حياة زوجية هادئة راقية قائمة على الود والحب والتفاهم والتضحية من أجل الأخر .
وعاشت مفيده حياة سعيدة كما كانت مع أبيها و أسرتها من الود والأحترام بين أفراد الأسرة جمعيا ، وبعد وقت قصير قال الزوج لمفيده أترغبين فى إكمال دراستك ودخول "ملحق" الثانوية العامة . . فأجابته بسعادة غامرة "نعم" فساعدها فى إجتياز الإمتحان ، ونجحت مفيده برغم تعب حملها الأول . . وأصبحت مفيده أم لـ " إسماعيل" وبعد شهور قليلة عرض عليها زوجها لثانى مرة أن تكمل تعليمها العالى . . وقال لها أنت تريدين طبعا أن تلتحقى بكلية الطب مثل أختك والتى حازت على شهرة واسعة فى ذلك الوقت ليس فى حى"السيدة" التى تسكن فيه بل فى أنحاء مصر كلها لإقتحامها مجالا لم تدخله المرأة من قبل . . . ولكن رأيى أن كلية الطب تحتاج إلى مجهود كبير ويصعب عليك القيام بذلك مع وجود إبنك . . . فما رأيك فى كلية الحقوق فهى الأنسب لك . . . وبالفعل قدمت أوراقها وما إن علم عميد الكلية أن صاحبة الطلب سيدة وأم فطلب مقابلتها مع زوجها ، وبعد أن تحاور معها ولمس حضورها القوى وتحمس زوجها للدراسة وافق على الفور .
وأصبحت "مفيده عبد الرحمن" واحدة من ثلاثه أخريات من أوائل الطالبات اللاتى إلتحقن بكلية الحقوق فى مصر . . . وتخرجت عام 1939 وهى أم لخمسة أولاد ، وإلتحقت بمكتب محاماه للتدريب ونظراً لكفاءتها ، بدأ يلمع إسم "مفيده عبد الرحمن" فى المحاكم المختلفه . . . وترافعت مفيده فى إحدى القضايا الصعبه وأخذت تستشهد بالأسانيد والقوانين وتناقش وتسأل الشهود فى جدية وحسم . . . ونجحت فى إنتزاع البراءة لموكلها من أول جلسة وذاع صيت مفيده عبد الرحمن وإستقلت بمكتب خاص وتوالى عليها القضايا الكثيرة ، وبدأت الجرائد تكتب عنها فى وقت كانت المرأة تلبس البرقع والملاية . . . ولم تقبل يوما قضية إلا لإقتناعها التام ببراءة موكلها أو إرتكابه للفعل تحت ضغوط نفسيه كبيره فتطلب الرأفة من المحكمة ، وإستمر نجاحها بمساندة زوجها و لم تهمل بيتها للحظة واحدة بل رزقت أثناء عملها بأربعة أولاد لتصبح أم لتسعة أولاد ,ورأفة وحباً لها فقد أحضر زوجها من يساعدها فى الإهتمام بالأولاد والبيت فإستطاعت تحقيق المعادلة الصعبة وهوالنجاح فى العمل والبيت وكانت تذهب للمحاكم
لآخريوم من حملها وذلك لقوة إرادتها وإصرارها على تحقيق النجاح . . . وكان من الطبيعى أن ترى قاعة المحكمة مليئة بالطلاب والمحامين فى أى قضية تترافع فيها ليتعلموا منها ويشاهدو حضورها الطاغى وتمكنها القوى من القوانين.
لم تفكر مفيده يوماً ماذا تجنى من المحاماه ، فطوال مشاورها لم تحقق ماديا أى شيء على الإطلاق ولكنها حققت ما هو أكبر وأسمى وهو مساعدة الآخرين والبسطاء فى مشاكلهم ومحنهم
،ولم تتقاضى أتعابا من هؤلاء . . . وترافعت فى المحاكم العسكرية كأول إمرأة تترافع فى تلك المحاكم وأختيرت كعضوه فى البرلمان لمدة 17 عاما متصلة عن دائرة الأزبكية . . وكانت أول سيدة تترافع أمام المحاكم العسكرية العليا . . وأول محامية تقيد بالنقض . . وأختيرت لتولى أرفع منصب قانونى دولى وهو رئاسة الاتحاد الدولى للمحاميات والقانونيات . . وهى رائدة المحاميات العربيات . وأصبح شهرة "مفيدة عبد الرحمن" ليس داخل مصر بل بالوطن العربى كله ، لذلك تمت دعوتها من قبل الأمم المتحدة وقدمت لهم دراسة عن نظم الأسرة والطفولة، وكانت تدعى لحضور إجتماعات "جمال عبد الناصر" مع بعض رؤساء العالم .
لم تحقق مفيده هذا دون مساعده فهى تدين بالفضل أولا إلى والدها فهو مثال للأب الحنون الذى يرعى أسرته دون تحكم أو تضيق ، فهو يستحق أن يطلق عليه المسلم المستنير الذى فهم دينه الفهم الصحيح ، وشجع بناته على التعليم وإكمال دراستهم الجامعية ، والدخول فى مجالات كانت محظورة على البنات فى تلك الفترة مثل الطب والحقوق .ثانيا زوجها الكاتب الإسلامى محمد عبد اللطيف صاحب المؤلفات العديده فى تفسير القرآن والذى ساعد زوجته طوال حياتهما معا وكان السند والمشجع لها دائما . . . ولم يغار يوما من شهرتها بل كان يقول لها أنت وجه مشرف لمصر . . . فوقف بجانبها ولم يرفض يوما سفرياتها العديده لدول العالم وكانت أحيانا تطول الرحلة إلى شهرين أو أكثر . . . فيتفق الزوجان على أن يقوم كل منهما بكتابة رسالة يوميا للآخرليشعر كل طرف أنه لم يفارق الأخر ، وهكذا أصبح الإثنين مثالا للحياة الزوجية المليئة بالحب والسعادة والتفاهم والإنسجام لدرجة أن العظيمة "أم كلثوم" قالت يوما لها أريد أن أطلع على رسائلك أنت وزوجك أكيد هى ملحمة حب وحنان . . .
وهكذا حصدت "مفيدهعبد الرحمن" من المحاماه ما هو أهم وأكبر من المال وهو الشهرة الواسعة والإحترام وأصبح إسمها محفوراً كرائدة من رائدات مصر العظماء الذين كافحوا بنضال لتأخذ المرأة مكانتها ليس فى مصر فقط بل إمتد التأثير إلى الدول العربية كلها
فلم تحصل المرأة على حقوقها على طبق من فضة ولكن نتيجة كفاح ونضال لسنوات طويلة بل لا أبالغ أنها لعصور طويلة . . . وإعتزلت مفيده عبد الرحمن العمل عن عمر يناهز الثمانين وماتت فى عام 2002 عن عمر 88 عاما .
هذه واحدة من حكايات عديدة لرائدات صنعن تاريخ المرأة المصرية للحصول على كامل المساواة والحق فى العمل فى المجالات المختلفة بدءاًمن هدى شعراوى وصفية زغلول وهو أول مشاركة للمرأة فى العمل السياسى عام1919 مرورا بإلتحاق مفيده عبد الرحمن بكلية الحقوق . . سهير القلماوى وأمينة السعيد فى الأداب . . وسميره موسى فى العلوم . . ولطيفة
النادى ثانى قائدة طيران فى العالم عام 1933 والتى نفتخر بها دائما . . إلى تعيين أول وزيرة فى مصر أيام عبد الناصر وهى حكمت أبو زيد كوزيرة شئون إجتماعية والتى نظمت وأنشأت عدة قوانين للأسرة والطفل وقوانين للمعاشات فلها الريادة فى هذا المجال . . وعائشة راتب كأول سفيرة فى مصر . . . وأخريات كثيرات كسرن الحاجز الحجرى فى شتى المجالات .
وهذا هو حال المرأة فى أوائل القرن الماضى عصرالنهضة والتنوير والإنفتاح على دول العالم المتقدم وأخذ مايفيدنا ويساعد على تقدمنا مع وجود ثورة ثقافية يتزعمها الادباء والمفكرين والعلماء فى ذاك الوقت . . . ولكننجد الآن أصوات عديده بل طوفان من الهجوم على المرأة وكأننا السبب الرئيسى والوحيد فى كل المصائب والكوارث . . ونجد تيارات تنادى بالعمل على إقصاء المرأة تماما والرجوع بها ليس لأوائل القرن الماضى . . يا ريت بل لآلاف السنيين وفى خيالهم وقناعتهم ما أجمل الرجوع بالزمن للوراء !!!!! . . . . فكيف يحدث هذا والعالم أصبح قرية صغيرة وما يحدث فى أصغر قرية فى مصر يصل إلى أبعد مكان فى العالم فى نفس اللحظة . . .منظمات حقوق الإنسان والقوانين الدولية والمباديء الإنسانية والديانات السماوية الثلاث تدعو إلى السماحة والتوافق والتعايش فى سلام . . .
فالحريةحق أصيل للإنسان والحرية ليس لها لون أو جنس . . وهى حق تقرير المصير فالإنسان حر فيما يفعل طالما لا يضر الآخرين ونحن فى الشرق لنا نفس المفهوم للحرية وبما لا يتجاوز العادات والتقاليد الشرقيةوالفهم الصحيح لتعاليم الديانات السماوية الثلاث .
الله خلق الأرض لنتعايش فيها جمعياً فأنت حر فى رأيك وعقيدتك وأنا حرة فى رأيى وعقيدتى وما يفصل بيننا القوانين التى تطبقها الدولة والتى يجب ألا يتجاوزها أى فرد فى المجتمع أى كان رجل أم امرأه . . . والله خالق الكون كله هو من له حق محاسبة البشر جمعياً فالدين علاقة العبد بربه إن أصاب أو أخطأ للمرأه والرجل سواء . . . أما من تريد أن ترجع إلى عصر الحريم فلها كامل الحرية والإحترام ولكن عليها أن تطبقه على نفسها فقط أما ما يطبق على المرأة فى مصر بلد الحضارات وصاحبة التاريخ الطويل فهو العمل على رفع شأن المرأة وعدم الإقصاء فلا يمكن الرجوع بعد أن جلست على منصة القضاء وبعد عمل15 سيده فى "مصر للطيران" كقائدة طائرة وإجتيازها وتحملها صعوبات المهنة لتحلق فى سماء العالم طالبة الحرية والتقدير والحق فى تقرير مصيرها كعضوفاعل فى المجتمع وواجب المشاركة فى جميع المجالات لأنها تمثل نصف المجتمع .
إلهام المليجى
إدراة العلاقات العامة والإعلام