دروس من الهجرة
دروس من الهجرة
فى مطلع كل عام هجرى يحتفل المسلمون فى مشارق الأرض ومغاربها بإحياء ذكرى حدث إسلامى عظيم ، أحدث تحولا جذريا فى تاريخ البشرية ، ذلك هو هجرة نبى الهدى صلى الله عليه وسلم من مكة المكرمة إلى المدينة المنورة ، بعد أن أمضى ثلاث عشرة سنة فى مكة يدعو إلى إعلاء كلمة الله ونصرة دينه ، ولاقى فيها من الصدود والأذى مالايتحمله بشر ، حتى جاءه الأمر من السماء بالهجرة إلى المدينة ، وليكون ذلك فيصلا بين الحق والباطل ، بين النور والظلام ، بين الهدى والضلال ، بين التوحيد والشرك ، بين الإيمان والكفر ، وهناك فى المدينة حيث الأمن والأمان ، والدار والأنصار ، نما الإسلام وترعرع وتحقق له مجده وسلطانه وانتصر سيفه وقرآنه ، وانتشر وامتد حتى الصين شرقاً ، وغرباً حتى الأندلس ، وسيبقى إن شاء الله عزيزا قوياً مهابا إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها .
وقد اقتضت حكمته سبحانه أن يجعل من أحداث الهجرة دروساً ومواعظ خالدة لكل مؤمن فى كل عصر ، ترشدنا وتوجهنا وتعلمنا سنن الحياة بأسلوب تطبيقى عملى يفيدنا فى حياتنا العملية اقتداء برسول الله ( ص ) ،
فمن دروس الهجرة :-
الأخذ بالأسباب لتحقيق الأهداف وبلوغ الغايات : وهذا يقتضى اتباع ثلاث خطوات : تقوى الله – الأخذ بالأسباب – حسن الظن والرضا بقضاء الله ، مع الالتزام بالخطوات الثلاثه مجتمعة لكى يحظى المؤمن بتأييد الله وتحقيق الهدف والنتيجة المرجوة لما فيه خيره وصالحه ، فالتقوى والعبادة بدون عمل لا تكفى ( وقل اعملوا فسيرى الله عملكم ) ، كما أن العمل بدون تقوى لا يأتى بالنجاح الحقيقى وهو الذى يحظى برضا الله وبركته ويحقق السعادة فى الدنيا والآخرة ( إن الله لا يصلح عمل المفسدين ) ( وقدمنا إلى ما عملوا من عمل فجعلناه هباء منثورا ) ، كذلك فإن حسن الظن والتوكل على الله والرضا بقضائه بالشكر على السراء والصبر على الضراء هو من كمال الإيمان الذى يوجب حسن الجزاء ( ولنجزين الذين صبروا أجرهم بأحسن ماكانوا يعملون )
1. أما التقوى فهى – بعد الإيمان بالله – امتثال لأوامره واجتناب لنواهيه ، أى أداء العبادات المفروضة وعلى رأسها الصلوات الخمس فى أوقاتها ، وخصوصاً صلاة الفجر إذ التكاسل عن أدائها يجعل الطريق إلى الله غير ممهد لقبول الدعاء وقضاء الحاجات ورفع البلاء ، ثم المعاملات والأعمال الصالحة من صدقات وصيام وقراءة قرآن وأمر بالمعروف ونهى عن المنكر وإصلاح بين الناس وزيارة مرضى ورعاية أيتام ، كل ذلك وغيره من صالح الأعمال ، مع اجتناب كافة المعاصى من كبائر وذنوب وسلوكيات نهى عنها الدين كالغيبة والنميمة والكذب والخيانة والظلم والحسد والنفاق والغش والنظر إلى المحرمات وغيرها ، والالتزام بذلك يزيد العبد قربا إلى الله مما يورث حب الله وقضاء الحوائج لما فيه خير العبد حسبما تقتضى مشيئة الله جل وعلا – وليس مشيئة العبد ( وعسى أن تكرهوا شيئا وهو خير لكم وعسى أن تحبوا شيئا وهو شر لكم والله يعلم وأنتم لا تعلمون ) ، وفى هذا الصدد فإن رسول الله ( ص ) كان إمام المتقين وهادى البشر أجمعين .
وأما الأخذ بالأسباب : فهو استخدام الوسائل والأساليب الدنيوية المتاحة والمشروعة التى يهتدى إليها العقل البشرى لتحقيق الأهداف ، وهذا يقتضى العمل بإخلاص وبذل كل جهد ، فطالب العلم عليه – بعد أداء حقوق الله – أن يجتهد ويذاكر دروسه ، والمزارع عليه – بعد أداء حقوق الله – أن يبحث عن أحسن السبل لتحسين إنتاج حقله كما وكيفا ، والمريض عليه – بعد أداء حقوق الله – الدعاء ثم الالتجاء إلى الطبيب ، ويكون على يقين بأن الطبيب يعالج ولكن الله هو الشافى ( وإذا مرضت فهو يشفين ) ، وتتأكد المشيئه الإلهيه للإنسان بضرورة الأخذ بالأسباب وبذل كل جهد لتحقيق الهدف وتبدو جلية فى أحداث الهجرة ، فقد كان الله قادرا على أن يزيح عن طريق رسول الله ( ص ) كل معارضيه من الكفار والمشركين فى مكة ، بل كان فى قدرته أن يهدى له النفوس لقبول الدعوة وطاعته دون عناء ودون حاجة إلى الهجرة وتحمل مشاقها وأخطارها ، كما كان من اليسير أن ينقله رب العزة من مكة إلى المدينة فى طرفة عين أو أقل ، ولكنه كبشر وجبت عليه سنة الله فى خلقه ( لقد خلقنا الإنسان فى كبد ) أى العمل والكد والتخطيط والتدبير والشورى والصبر لكى يتحقق فى النهاية وعد الله المتمثل فى قوله ( وكان حقا علينا نصر المؤمنين )
? أما عن حسن الظن والتوكل على الله والرضا بقضائه ، فذلك بأن يكون الإنسان على يقين بأن كل ما يصيب الإنسان من خير أو شر إنما هو فى علم الله من قبل ان يحدث ، وقد أذن به كما هو مدون باللوح المحفوظ قبل خلق الناس ( ما أصاب من مصيبة فى الأرض ولا فى أنفسكم إلا فى كتاب من قبل أن نبرأها .. ) ، كذلك فإن كل ما يصيب المؤمن فهو خير له أو تحذير للكف عن معصية حتى لو كان ظاهره شرا ( وعسى أن تكرهوا شيئا وهو خير لكم وعسى أن تحبوا شيئا وهو شر لكم والله يعلم وأنتم لا تعلمون ) ، وفى الحديث الشريف ( عجبا لأمر المؤمن إن أمره كله له خير وليس ذلك لأحد إلا المؤمن إن أصابته سراء شكر فكان خيرا له وإن أصابته ضراء صبر فكان خيرا له )
2. ومن دروس الهجرة : استشعار معية الله للمتقين ( إن الله مع الذين اتقوا والذين هم محسنون)
تؤيده بالنصر وتكف أيدى الناس عنه ، فالكفار يحيطون بمنزل الرسول ( ص ) انتظارا لخروجه ثم قتله فيعمى الله أبصارهم ويخرج من داره مخترقا صفوفهم دون أن يروه
( وجعلنا من بين أيديهم سدا ومن خلفهم سدا فأغشيناهم فهم لا يبصرون ) ، كذلك فالكفار يصلون إلى غار ثور حيث يختبىء الرسول ( ص ) وصاحبه أبو بكر الصديق استعدادا للرحيل ، فيسمع أبوبكر صوت خيولهم فيتوجس خيفة على رسول الله خشية أن يصيبه أذى ، ولكن الرسول بحسن ظنه ويقينه بمعية الله يطمئنه ( إذ هما فى الغار إذ يقول لصاحبه لا تحزن إن الله معنا ) ، والكافر سراقة بن مالك أرسلته قريش ليطارد ركب رسول الله فى طريقه الى المدينة ويلحق به ويكاد يدركهم فتغوص أرجل الفرس الذى يركبه فى الرمال ، فيعود إلى مكة خائبا دون أن يمس الرسول ( ص ) بأذى .
3. ومن دروس الهجرة : جواز الاستعانه بغير المسلم فى أمور الدنيا إذا كان ذا خبرة خاصة أو
علم لا يتوفر لغيره من المسلمين ، فرسول الله استعان بالمشرك عبدالله ابن أريقط ليكون
دليلا له فى رحلته وذلك لخبرته بالطريق الصحراوية ولكن بعد أن اطمأن أن الله قد نزع من
قلبه ضغينة الشرك وكراهية الإسلام وسخره لخدمة رسول الله ( ص ) ( لاينهاكم الله عن
الذين لم يقاتلوكم فى الدين ولم يخرجوكم من دياركم أن تبروهم وتقسطوا اليهم ... )
4. ومن دروس الهجرة : اختيار الرفيق ، فالشيطان مع الواحد وهو من الاثنين أبعد ، فبالرغم
من أن رسول الله ( ص ) لم يكن فى حاجة إلى معونة بشر إذ هو مؤيد من الوحى فى كل
أمور دينه ودنياه ، إلا أن الله أراد أن يعلمنا سنة حميدة وهى أن يكون للإنسان صديقا تقيا
وفيا عاقلا مخلصا يستشيره ويأنس إليه ويلجأ إليه فى شدته ويأتمنه على سره ويشاركه
أفراحه وأحزانه ، وكان أبوبكر الصديق نعم الصديق الوفى ، ومن قبله اتخذ عيسى ابن
خالتة يحيى رفيقا له ، واتخذ موسى أخاه هارون رفيقا،واتخذ ابراهيم ابن أخيه لوط رفيقا له
5. ومن دروس الهجرة : الحرص الشديد عند التعامل مع أموال اليتامى ( ولا تقربوا مال اليتيم
إلا بالتى هى أحسن ) فلم يقبل النبى ( ص ) التبرع بقطعة الأرض التى أراد بناء مسجده
عليها حيث كانت ملكا لطفلين يتيمين ، فأمر بدفع الثمن لهما .
نوع آخر من الهجرة : هو ما جاء بالحديث الشريف ( المهاجر من هجر ما نهى الله عنه ) لقوله تعالى ( والرجز فاهجر ) آى هجر المعاصى والذنوب وكل قبيح مما يغضب الله قولا وعملا ، فهو هجرة من الشر إلى الخير ، من الرذيلة إلى الفضيلة ، من الكذب إلى الصدق ، من الظلم إلى العدل ، من البخل إلى الكرم .
وبالله التوفيق ..
م/ رزق الشناوى
دبلوم المعهد العالى للدراسات الإسلامية
دبلوم معهد إعداد الدعاة