خواطر ايمانية

أرذل العمر

أرذل العمر هو المرحلة المتأخرة من مراحل خلق الإنسان التي أخبرنا بها القرآن الكريم في آيتين الأولى قوله تعالى (.. فَإِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ ثُمَّ مِنْ عَلَقَةٍ ثُمَّ مِنْ مُضْغَةٍ مُخَلَّقَةٍ وَغَيْرِ مُخَلَّقَةٍ لِنُبَيِّنَ لَكُمْ وَنُقِرُّ فِي الْأَرْحَامِ مَا نَشَاءُ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى ثُمَّ نُخْرِجُكُمْ طِفْلًا ثُمَّ لِتَبْلُغُوا أَشُدَّكُمْ وَمِنْكُمْ مَنْ يُتَوَفَّى وَمِنْكُمْ مَنْ يُرَدُّ إِلَى أَرْذَلِ الْعُمُرِ لِكَيْلَا يَعْلَمَ مِنْ بَعْدِ عِلْمٍ شَيْئًا ... ) .
والمعنى أن الذي خلق من تراب هو أبو البشرية آدم فأما باقي البشر فقد خلقوا من المني الذي يفرزه الرجل ( .. وَبَدَأَ خَلْقَ الْإِنسَانِ مِن طِينٍ (7) ثُمَّ جَعَلَ نَسْلَهُ مِن سُلَالَةٍ مِّن مَّاءٍ مَّهِينٍ.. ) أي جعل نسله من المني الذي ينطف من صلب الرجل وسمي نطفة لقلته، ثم من علقة وهي الدم الجامد، ثم من مضغة أي قطعة من اللحم بمقدار ما يمضغ، مخلقة أي فيها الرأس واليدين والرجلين، وغير مخلقة لم يخلق فيها شيء لنبين لكم قدراتنا و مشيئتنا، ونقر في الأرحام ما نشاء أي نثبت الحمل في أرحام الأمهات لمن أردنا أن نقره فيه حتى يتكامل خلقه إلى وقت الوضع، ثم نخرجه طفلا ضعيفا في بدنه وسمعه وبصره وحواسه ثم نعطيه القدرة على النمو شيئا فشيئا، ثم لتبلغوا أشدكم أي كمال قوتكم و عقلكم، ومنكم من يتوفى ومنكم من يرد إلى أرذل العمر أي يعمر حتى يصل إلى الشيخوخة والهرم وضعف القوة ليعود إلى ما كان عليه من ضعف البنية وقلة الفهم فينسى ما علمه ويعجز عن ما كان قادرا عليه ( .. وَمَن نُّعَمِّرْهُ نُنَكِّسْهُ فِي الْخَلْقِ.. ) .
-والآية الثانية قوله تعالى (وَاللَّهُ خَلَقَكُمْ ثُمَّ يَتَوَفَّاكُمْ ? وَمِنكُم مَّن يُرَدُّ إِلَى? أَرْذَلِ الْعُمُرِ لِكَيْ لَا يَعْلَمَ بَعْدَ عِلْمٍ شَيْئًا ? إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ قَدِيرٌ ) .
-ونستكمل الآيات القرآنية مراحل خلق الإنسان في قوله تعالى ( .. فَخَلَقْنَا الْمُضْغَةَ عِظَامًا فَكَسَوْنَا الْعِظَامَ لَحْمًا ثُمَّ أَنشَأْنَاهُ خَلْقًا آخَرَ ? فَتَبَارَكَ اللَّهُ أَحْسَنُ الْخَالِقِينَ (14) ثُمَّ إِنَّكُم بَعْدَ ذَ?لِكَ لَمَيِّتُونَ (15) ثُمَّ إِنَّكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ تُبْعَثُونَ) (ثُمَّ سَوَّاهُ وَنَفَخَ فِيهِ مِن رُّوحِهِ ? وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالْأَبْصَارَ وَالْأَفْئِدَةَ ..) ( ثُمَّ لِتَبْلُغُوا أَشُدَّكُمْ ثُمَّ لِتَكُونُوا شُيُوخًا ..) .
-ومرحلة الشيخوخة من المراحل الجديرة بالذكر والاهتمام حيث كثر الجدل حول قدرة الشيوخ على البذل والعطاء وما لهم من حقوق وما عليهم من واجبات، فالشيوخ شريحة من المجتمع علمتهم الأيام و حنكتهم الأحداث و صهرتهم التجارب، فهم قادة وحكماء لا تستقيم أمور المجتمع إلا بهم ولا تنصلح الأحوال إلا بآرائهم وخبراتهم وتوجيهاتهم، وتحل البركة ويعم الخير بدعاء الصالحين منهم، ويظل عطاؤهم مددا لنا ننهل منه الخير والمشورة وكل ما تستقيم به أمور ديننا ودنيانا، ولنا في رسول الله صلى الله عليه وسلم أسوة حسنة فقد ظل يعمل ويجاهد في سبيل إعلاء كلمة الله ونصره دينه، ويعلم الناس و يؤدبهم حتى تجاوز الستين من عمره الشريف، وفي مجال علوم الدنيا فإن هناك العديد من الإعجازات العلمية الباهرة التي حققها علماء في شيخوختهم وأفادوا بها البشرية، هذا فضلا عن أن الإنسان في طور الشيخوخة يكون أكثر نضجا وأبعد نظرا وأكثر عدلا واتزانا في حكمه وحسن تقديره للأمور، بعيدا عن الهوى والإنحراف، وكل ذلك يدفعنا إلى أن نلجأ لشيوخنا للاستفادة من خبراتهم وتجاربهم] فما خاب من استشار وما ضل من استخار[ .
-ولأن الشيخوخة تطور طبيعي تصاحبه تغيرات في أداء مختلف أجهزة وأعضاء الجسم مما يؤدي إلى ضعف ووهن يأتي بعد سنوات من العطاء والجهد والتضحية فإن الأمر يقتضي التعامل مع صاحبها بعقل متفتح وفكر مستنير باعتبارها طورا حتميا أوجده الخالق جل وعلا (اللَّهُ الَّذِي خَلَقَكُم مِّن ضَعْفٍ ثُمَّ جَعَلَ مِن بَعْدِ ضَعْفٍ قُوَّةً ثُمَّ جَعَلَ مِن بَعْدِ قُوَّةٍ ضَعْفًا وَشَيْبَةً ...) وفي هذا الصدد فإن هناك واجبات على الشيخ نحو ربه ونحو نفسه ونحو غيره، وكذلك فإن له حقوقا على غيره .
-فأما واجبه نحو ربه فهو الشكر له لقوله تعالى (حمَلَتْهُ أُمُّهُ كُرْهًا وَوَضَعَتْهُ كُرْهًا ? وَحَمْلُهُ وَفِصَالُهُ ثَلَاثُونَ شَهْرًا ? حَتَّى? إِذَا بَلَغَ أَشُدَّهُ وَبَلَغَ أَرْبَعِينَ سَنَةً قَالَ رَبِّ أَوْزِعْنِي أَنْ أَشْكُرَ نِعْمَتَكَ الَّتِي أَنْعَمْتَ عَلَيَّ وَعَلَى? وَالِدَيَّ وَأَنْ أَعْمَلَ صَالِحًا تَرْضَاهُ وَأَصْلِحْ لِي فِي ذُرِّيَّتِي ? إِنِّي تُبْتُ إِلَيْكَ وَإِنِّي مِنَ الْمُسْلِمِينَ) .
والشكر يكون بالقول والعمل، فيحمد الله الذي أمد في عمره ووفق والديه لرعايته وتربيته، وعلى كل عطاء من الله تعالى من إيمان وصحة ومال وعمل وأهل وذرية أيا كان قدره وعلى كل حال، كذلك بزيادة المساحة الدينية في حياته من عبادات وطاعات وأعمال صالحة، والابتعاد عن كل ما يغضب الله والرسول، حيث جاء الوقت الذي يسمح بتدارك ما كان من تقصير في كل ما سبق (فَإِذَا فَرَغْتَ فَانصَبْ (7) وَإِلَى? رَبِّكَ فَارْغَب)، وسوف يكون عائد ذلك بإذن الله هو المزيد من القبول والرضا من رب العزة (لَئِن شَكَرْتُمْ لَأَزِيدَنَّكُمْ) مما يخلف السعادة فيما بقى من العمر وحسن الثواب في الآخرة (فَآتَاهُمُ اللَّهُ ثَوَابَ الدُّنْيَا وَحُسْنَ ثَوَابِ الْآخِرَةِ ) وكذلك الهداية والبركة في الذرية من بعده ( وَكَانَ أَبُوهُمَا صَالِحًا) (وَلْيَخْشَ الَّذِينَ لَوْ تَرَكُوا مِنْ خَلْفِهِمْ ذُرِّيَّةً ضِعَافًا خَافُوا عَلَيْهِمْ فَلْيَتَّقُوا اللَّهَ وَلْيَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا) .
-وأما عن واجباته نحو نفسه، قمتها تصحيح المسار في النواحي الصحية من حيث التغذية المتوازنة والرياضة الخفيفة وأهمها المشي، وعدم إرهاق البدن بالسهر والابتعاد عن كل ما يضر الجسم كالتدخين وخلافه ]فإن لبدنك عليك حق[ ولا مانع من ممارسة أي عمل مناسب أو هواية بما لا يتعارض مع ظروفه الصحية (لاَ يُكَلِّفُ اللّهُ نَفْساً إِلاَّ وُسْعَهَا) كذلك المزيد من الثقافات بأنواعها الدينية والطبية والاجتماعية وغيرها وذلك بالقراءة والاطلاع وحضور الدورات والمحاضرات والمعارض، ففي كل ذلك غذاء للروح واستثمار للطاقة والوقت مما يترتب عليه زيادة الثقة في النفس والتخلص من الخمول والكسل وما يترتب عليهما من أضرار صحية ونفسية، وكذلك تغيير المكان ولو لفترة محدودة لإزالة الملل برحلات خفيفة والزيارات للأقارب في حدود الإمكانات الصحية والمادية.
- ومن واجباته نحو غيره تقديم كل عون من خبرة العمل وتجارب الحياة والنصح والإرشاد والإصلاح بين الناس لكل من يحتاج لذلك من الأهل والأقارب والأصدقاء والجيران وغيرهم (فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَصْلِحُوا ذَاتَ بَيْنِكُمْ ) ] من كان في حاجة أخيه كان الله في حاجته[.
-وفي مقابل الواجبات فإن للشيخوخة حقوقا (وَلَا تَنسَوُا الْفَضْلَ بَيْنَكُمْ) من ذلك الاحترام والرعاية والعطف وسعة الصدر والصبر على تجاوزاتهم وقضاء حاجتهم والدعاء لهم، وكلها أوامر إلهية، حيث قضى ربنا بالإحسان إلى الوالدين وجعلها في الدرجة التالية لعبادته مباشرة ( وَقَضَى? رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا)، وأن تكريم الشيوخ أمر واجب على كل من يتعامل معهم فردا أو جماعة أو دولة أو جهة خدمية، وذلك بالقول الحسن وتيسير الأمور، وفي الحديث الشريف ]ليس منا من لم يرحم صغيرنا ويوقر كبيرنا[، وإنه سوف يأتي اليوم الذي يحتاج فيه كل منا إلى من يكرمه في شيخوخته، وأن لكل شيء نهاية ]إفعل ما شئت كما تدين تدان.
مهندس / رزق الشناوى نائب رئيس مجلس الإدارة الأسبق
دبلوم المعهد العالى للدرسات الإسلامية
دبلوم معهد إعداد الدعاه