الواحة

قمر 14

نحن نكتسب خبرتنا فى الحياة من العلم الذى تعلمناه على مراحل عمرنا المختلفة والتجربة الشخصية  التى مررنا بها ، وتكون خبرتنا نتيجة  تجربتنا فقط ... ولأننا فى عصر المعلومات والمعرفة وإكتساب خبرات مختلفة ، أصبح أمامك الطريق مفتوح فى مجالات عديدة لتتعلم خبرات ومعرفة تضاف إلى سنوات عمرك أضعاف وأضعاف بالمُلاحظة والمشاهدة لتجارب الأخرين ... .. والقراءة لكل ما يقع عليه عينيك ... وإذا إتبعت هذا النهج تصبح قادراً على  الحكم على من حولك وفهم شخصياتهم بسهولة بالإضافة لعدم وقوعك فى نفس الأخطاء التى وقع فيها الآخرين .... فالعالم أصبح كتاب مفتوح لا تغلقه بيديك على نفسك ..................
"سلمى " ذات 14 ربيعاً صاحبة حكاية علينا أن نتأملها ، هى من أسرة متوسطة الحال مترابطة وسعيدة ، الأب موظف فى إحدى الشركات والأم تعمل فى مدرسة ابتدائى قريبة من منزلها ، ترافق أولادها للمدرسة ذهاباً وإياباً وتسير ممسكة بيد شقيق سلمى الصغير وبجوارها سلمى قبل ما تنتقل إلى المرحلة الإعدادية وكان عليها أن تذهب لمدرستها برفقة أخرين ومع شعورها بالغربة فى بادىء الأمر إلا أن شخصيتها وصفاء ملامحها سهلت عليها مصاحبة الكثيرات من الزميلات بعد فترة قصيرة من إلتحاقها بالمدرسة الجديدة  .... وتمضى أيام الأسبوع بالأسرة سريعاً كعادة كل بيت مصرى إلى أن يأتى يومى الجمعه والسبت من كل أسبوع والتى ينتظره الجميع كما تعودوا من والدهم بأن يحقق رغبات الجميع ولكن فى حدود المتاح ......  لا يزحف أبداً الملل إلى قلوبهم على الرغم من محدودية الأماكن التى يرتادوها .. من زيارة أحد الأقارب أو القيام بنزهة قصيرة فى أحد الحدائق العامة أو تمشية على كورنيش النيل حينما يأتى أخر الشهر والجيوب شبه خاوية وتصل سعادتهم إلى ذروتها حينما يشاهدوا أحد عروض ومهرجانات وزارة الثقافة المجانية على مدار العام ، ولأنهم يتمتعوا بروح طيبة ومسالمة ونفس راضية تكون الصحبة هى مصدر السعادة مما يُضفى على كل مكان ترددوا عليه مرات عديدة وكأنها أول مرة تطىء أقدامهم فيه.......... ولأن سلمى حبيبة والدها فهى التى حددت نزهه اليوم مكافأة لتفوقها وتميزها الدراسى دون الحاجة لدروس خصوصية.... وأختارت الفتاة الصغيرة الجلوس وقضاء يوم كامل على ضفاف النيل ... وقامت الأم بدورها من استعدادت وتحضير كل الإحتياجات من طعام وشراب بمساعدة اسرتها ...........................
ووصلت الأسرة إلى مكان هادىء على النيل .. لا يحجب رؤيته أى حواجز أو سور حديدى .... ركن الأب سيارته القديمة وأفترشوا الأرض بسجادة واسعة تحت ظل شجرة تعكس فروعها وأوراقها مناطق ظل كبيرة ولأن المكان محدود إلى حد ما ولا يوجد به مقاعد للجلوس مما جعله إكتشاف بجد يريح النفس قبل العين لتنعم  فيه بخصوصية ، هم ونسائم النيل وضحكات سلمى وشقيقها مجلجله من القلب وتعليقاتهم حين يلتهم الصغير ما يحبه من طعام ويقضى عليه " حتتك بتتك" وتكرار الأم وهى تردد كيف لها أن تنسى أن تحضر كذا وكذا !!! ......ويُشيرالأب موجهاً كلامه لزوجته : فاكره لما سلمى نطقت أول كلمة كانت أيه؟  ترد طبعاً ومن ساعتها وهى حبيبة أبوها  ... ويصاحبهم دائماً راديو صغير ليكمل المشهد الرائع لأسرة محبة للحياة ...... وبعد ساعة تقريباً من بداية رحلتهم أراد شقيق سلمى أن يُغلس عليها متناولاً كوب العصير من بين يديها وهى مُصممة على عدم تركه ، وإذ بالكوب يقع بأكمله على البنطلون الذى ترتديه، فصرخت فيه وعنَفته بشدة وسط دموعها ، فكيف لها أن تُكمل يومها هكذا ... فأقترحت الأم أن تخلعه لغسله سريعأ وبعد نصف ساعه تستطيع أن ترتديه ، فرفضت الابنه .. فكيف لها أن تجلس معهم هكذا ... فأقترح الأب أن تجلس بداخل السيارة وسيترك لها جزء من زجاج السيارة مفتوح فوافقت واتجهت للسيارة منتظرة الإنضمام لأسرتها مرة أخرى .............
ولأن الوقت يمر ببطء وهى وحيدة .. لا تدرى مذا تفعل فحاولت أن تفتح راديو السياره فلم تستطع .. فجلست على كرسى عجلة القيادة ممسكة بها تتمايل يميناً ويساراً تتحدث وتغنى مع نفسها وأندمجت سلمى أكثر وأكثر وكأنها تلعب دوراً شاهدته فى فيلم ما وعبثت بفرامل اليد بدون وعى والسيارة ليست فى وضع الثبات وكانت على تَبه منحدرة ،فإذ بها تتحرك ... هنا صرخت سلمى صرخه مدوية هزت أركان المكان تستنجد وتستجدى المساعدة والأنقاذ .... فهرعت الأسرة مفزوعين على إستغاثتها ..... يعجز القلم على وصف مشهد الأم حين تسمرت فى مكانها بعد خضتها وعيونها متحجرة فاقدةً النطق ، ويقفز الأب مسرعاً أمام السياره محاولاً توقفيها يتملكه رغبةً عارمة فى إنقاذ روحه الصغيرة وهى تصرخ باكية ..الحقنى يا بابا.... الحقوووونى .... ولكن السيارة بسرعتها نطرته جانباً ويقفز الأب مرة أخرى ودموعه تنساب على وجهه بغزاره رافعاً يديه فى إتجاه السيارة أمسكى بأيدى ياسلمى .. تعالى ... تعالى يا حبيبتى بلاش تسبينى .... وتأتى النهاية على غير المتوقع ، ويجرى شقيق سلمى مرتمياً فى حضن أبوه سلمى بتغرق جوه العربية  .... وفى غمضة عين يَرتطم الجزء الأمامى للسيارة المسرعة بسرعة الصاروخ بحافة النيل ... وفى ثوانى معدودة تأكدت خلالها من أن لا أمل من النجاة ... لتبتلع وتلتهم المياه السيارة لتختفى معالمها تماماً ، ليقترب الموت المعجون بطعمه المُر ... وتنطفىء عيون الملاك الصغير وهى تنطق ما لا يقوله اللسان وتقول .... وداعاً ... وتختفى قمر 14 للأبد فى هذه الرحلة المشئومة ........... فى مشهد يدمى القلوب ويعتصرها عصراً على فراق الأحباب ومع صوت النحيب والصراخ يصل عدد قليل من الناس ووسط حشرجة صوت الأب يريد أن يفيق من هذا الكابوس المرعب ....... أهل الخير تدخلوا و طلبوا شرطة المسطحات المائية أملاً وحلماً بعيد المنال بأن سلمى لا زالت على قيد الحياة .. وسيارة الأسعاف لنقل الأم وهى تنازع خفقان فى القلب سيفقدها حياتها .... ولم يكُف الأب ولو لحظة وبصوت مسموع يملئه ذهول من سرعة الفراق ويٌشير سلمى كانت قاعده هنا بتضحك من دقائق ... هى فين ... آآآآآآه يا سلمى ... عايز سلمى بنتى ..............  نعم لقد ذاقت هذه الأسرة أقصى مرارة يتصورها العقل فى الدنيا أن يشهد الأبوين موت روحهم وفلذات أكبادهم أمام أعينهم ... عاجزين أن يفعلوا شيئاً !!!!!  ...........  مصير هذه الأسرة الأن الله كفيل بأن يبرد قلوبهم التى تسقيها نار الفراق بسكينة ورحمة من عنده ، ويلهمهم الصبر الذى لا حدود له ........................
وقبل أن نختتم هذه الحكاية علينا أن نُعلم أبناءنا أساسيات الحياة غير الأدب والحلال والحرام هو "أعمال العقل" ليكون سلوك دائم فى تصرفتنا وفى الأزمات التى تفاجئنا فى حياتنا ... إن الحذر لا يمنع القدر ...ولكن علينا أن نعمل ما علينا أولاً ثم نتوكل على الله .... فلو كانت الملاك الصغير تعلمت أساسيات السيارة لَما فشلت أن تنقذ نفسها بنفسها واستطاعت أن توقف السيارة أو تفتح "مسوجر" الأبواب سريعاً لتقفز خارجها مسرعة ... ولن نقع فى نفس خطأ الأب بإختيار مكان غير مؤمن ، كما أنه ترك السيارة بدون وضع الثبات .... وهذا ما يجب أن نُعلمه لأولادنا آلا نقع فى أخطاء ساذجة نتيجه أهمالنا فى تعلُم اساسيات تؤدى بنا إلى كوارث جسيمة ..... حفظ الله الجميع من كل سوء ..........
الهام المليجى