الواحة

شجرة البُونسٍياَنا

أستيقظ من نومه مبتهجاً وحملق لبرهه فى سقف الغرفة ... وأزاح غطاءه مردداً "حصانى الخشب" وظل يردد وهو يمد رجليه ليترك سريره ، ووقف حائراً وسط الغرفة لا يدرى من أين يبدأ البحث عن حصانه الخشب وبصعوبة فتح دولابه مفتشاً ومنقباً وسط ملابسه وهى تتساقط قطعة تلو الأخرى ... وبدى عليه الضيق وهو يتسأل عن مكان حصانه وأين يكون قد وضعته أمه ... لا يتذكر شيئاً ... وجلس كالقرفصاء على الأرض ومد يديه ورأسه أسفل السرير أعتقاداً منه أن يكون قد سقط ... فلم يعثر عليه وكاد ينادى على أمه ..... واذ بخطوات تقترب لفتح باب الغرفة ، فتوقف ليسأل أمه  ... لكنه تسمر مكانه فى ذهول  ... مع دخول شخص حاملاً طعام بسيط فى كميته وسط الملابس المبعثرة فى كل مكان ... وألتفت ناحيتها وصاح أنتى مين ؟!!!!!
**************
ردت بغيظ وهى تضع الطعام فى أحد أركان الغرفة وهى تٌتمتم "انا منى" ... وأخذت تكرر كأنها شريط تسجيلى يعاد سماعه وتكراره بصورة آلية عن مدى تعبها وشقائها يومياً ... والتفتت محاوله اصطناع البرود والهدوء... اغمضت عينيها وهى تضغط على جبينها بأصابعها بحركات دائرية لتستريح لبرهه من صداع يلازمها ... وابتسامة باهتة أخبرته أنها بحثت عن حصانه فى كل مكان ولم تعثر عليه ، وعليه أن يكف فى البحث عنه !! .. فنظر لها وهو متقوقع فى ركن على كرسى محاولاً الأبتعاد بجسده ، وقد سيطر عليه الشعور بالخوف... لا يعرف كيف يتركه والديه هكذا مع هذه السيده وهو لا يعلم عنها شيئاً... وأين هم ؟! وفشلت منى فى أن تبدد قلقه والتقرب منه واستمالته ناحيتها ، فأشارت إلى الطعام ليتناوله وتركت له الغرفة وغادرت ... ظل واجماً حزيناً يتسرب القلق فى نفسه رويداً رويداً  إلى أن تملكه شعور بأن شىء ما يجرى خارج الغرفة .... فحاول أن يتلصص السمع وهو يوارب باب الغرفة، يرمق بعينيه اللامعتان وهو يرى اشخاص لا يعرفهم  يتهامسون مع منى متوجهين ناحيته  ... وقد تمكن منه الرعب ، وادرك أن مكروهاً حدث لوالديه ... وأن شىء خفى يدبر له .... فتراجع بظهره عن باب الغرفة ملتفتاً يميناً ويساراً ... لا يدرى أين يختبىء وينجو بنفسه من هؤلاء....
**************
فأنتابته حالة من العصبية والإنفعال ..... كيف يقابلهم ؟! ... وعند اقترابهم منه ، نظر لهم بفتور مع قوة وعنف لإقتحامهم مملكته ، ورد عليهم بغلظة وعدم ارتياح  .... فلم يتمكنوا من الجلوس والتحاور غير دقائق معدودة ولحظات صمت طويلة ..... غادروه تاركين منى

 معه ، ووضعت ماكانت تحمله بجوارها على منضدة قريبة من السرير ،وامسكت ملعقة بيديها مرددة علمها بعدم استطاعته تناول الطعام وحده ، لكنه أشاح بيديه الطعام من أمامه بغضب ..... لكن منى كانت أكثر حلماً وصبراً هذه المرة.... فنظرت له وهى تربت على كتفيه بحنان .... كلنا بنحبك وبجانبك وفى خدمتك ........ وأخذت تكمل كلامها معه وكأنها تحادث نفسها ، وتخبره أنها أحياناً تحسده على الرعاية الكبيرة التى يلقاها .... وكم تمنت أن يكون لها نصيب فى حياتها وأن يكون أحد بجوارها ، ولكن لم يكن لها حظ فى الزواج ولم يرزقها الله بالأولاد فعرفت الوحدة مبكراً ، وسنوات مرت عليها فى تقشف وحاجة إلى أن استقرت فى هذا البيت والتى أحست بالأمان والدفا بين جدرانه على الرغم من أنه ليس بيتها وتمنت أن يطيل به العمر ليستمر وجودها واستقرارها معه ......... وبنظره حانية وهى تغالب دموعها ... أنها لا تعرف كم مره قد قصت عليه هذا الكلام ...... وأمسكت مرآه ووضعتها أمامه ....... هذا هو أنت يا أستاذ حلمى ..... ورأى وجه وقد كسته تجاعيد وخطوط سنوات طويله من العمر ...... وأمسكت ألبوم صوره ، وأشارت هذه هى صورتك مع والديك حاملاً الحصان الخشب اول هدية لك من والدتك لتفوقك الدراسى ..... وأخذت تشرح له وتعلق عليها  ، وتهز رأسها وتضحك على بعضها محاولة جذبه للتفاعل معها ..... تتنهد وتصمت قليلاً .... مات أحبابك من زمن طويل ....ولم يتبقى لك غير أولادك .....  مسكاكين .... كل مرة عند رؤيتهم ... تصدهم ، وهم من أحضرونى لرعايتك بعد أن تمكن منك .....مرض الزهايمر .......  فقد أصبحت لا تملك فى ذاكرتك غير أحداث قليله من طفولتك ....... وهنا انتاب الأستاذ حلمى حالة من عدم الإكتراث والتوهان .......... وأكملت عن علمها أنه سيصل  إلى مرحلة نسيان سنوات طويلة قضتها فى  خدمته ورعايته ونسيان أولاده والذين كانو بالخارج للإطمئنان عليه  ....... وتستحلفه أن يظل بأنفاسه فى هذا البيت وأن يطيل الله بعمره لكى لا تعود إلى وحدتها ....... وهمت بمغادرة الغرفة وسط حالة التوهان المعتاد عليها الأستاذ حلمى ..............
**************
وفى لحظات إفاقه ... أدرك الأستاذ حلمى مكانه وزمانه ... وعمره الذى أمتد لسنوات وأن منى هى الممرضة التى رافقته وسهرت على راحته والإعتناء به  ، وبيد مرتعشة لكبر السن والوهن .... فقد هرمت الروح والجسد معاً ....اتكأ على وسادته ، وأخذ يتقلب على جانبيه فى حالة من القلق من لاشىء ....لا شىء ... يشغل باله وتفكيره ..... فقد أصبح صفحة بيضاء ..... خالية من ذكريات مشوار ورحلة عمر ..... فلم يتبقى منها غير ملامح والديه وحصانه الخشبى ... فجأة قفز من مكانه كالأطفال ، وقف حافى القدمين غير مدرك لبردوة الشتاء ، وبحركات دائرية سار فى الغرفة عدة مرات إلى أن توقف أمام الشباك محاولاً فتحه ... وإذ بعاصفة هوائية تجتاحه وتلفح وجه وجسده النحيل .. ومن شدتها أغمض عينيه ... ويبدو انه مستمتعاً بصقيع الشتاء فاقترب بجسده من الحائط إلى أن التصق به ومد يديه من بين الحواجز الحديدية وتركها للحرية والإنطلاق وهو يشاهد شجرة البونسيانا وأوراقها الصغيرة تتساقط بعد اصفرارها لتتطاير فى الهواء وتتناثر فى كل مكان كأنها شلالات من حبات القمح ..... ويقبع  طفل صغير أسفلها منتظراً المزيد والمزيد ليتلقفها بسعاده ويغنى ويرقص كأنه راقص تنوره ماهر ويلهو ويتمايل تحتها فرحاً  ..... ويتمايل الأستاذ حلمى بيديه فى الهواء يميناً ويساراً وهو يراه ويضحك معه إلى أن تلاقت العيون اللامعه عيون طفل مولعة بالحياة و عيون عجوز متشوقاً للحرية ......... فقفز الطفل عدة قفزات مرحة حين لمح سعادة الأستاذ حلمى وهو يشير له مهلالاً...... أنا ........ أنا ...... من أناديك .
الهام المليجى