الواحة

لهفة اللقاء

يوم غير عادى فى انتظار" منال " بدأته شاردة الذهن تتأمل حالها ، معاناة يومية من دوامة الحياة التى جعلتها ترس يدور لمجابهة متطلبات لا تنتهى .... والشكوى من عبىء صعوبة العيش والأزمات المادية المستمرة ... فهى على قناعة بأنها تتحمل أكثر مما يطيقه بشر وأنها تصنع المعجزات وأنها ... وأنها .... وأين هى أحلامها الوردية التى تتمناها ؟! ....  وتنهدت منال وهى قابعة بجوار شباك السيارة التى تقلها للذهاب  لعملها فى  مكتب الشهر العقارى بأحد المدن الجديدة والذى يبعد عن سكنها كثيراً ..... وخلال الذهاب والعودة من العمل تسرح منال مع نفسها ولنفسها ، لحظات عقلها وقلبها يتأرجحان بين الرضا بالمقسوم ..... وأحيانا الطموح بالمستحيل حدوثه ... وهكذا مرت سنوات طويلة وهى كما هى لم يطرأ على حياتها تغيير يذكر .... لا نجاح فى العمل  ولا فى حياتها الزوجية ...  كله عادى عند منال لا طعم ولا رائحة له ... ولكن السر فى تقلبها وتمردها بزيادة "شويتن" هى مكالمة "هناء" مديرة الشهر العقارى وزميلة الدراسة  أمس وقد أخبرتها بعودة زمليهم فى الجامعة "عصام" واستقراره بمصر بعد سنوات طويلة من الغربة وترجوها بالإهتمام به وتخليص طلباته فى الشهر العقارى   **********************
ولماذا الآن يظهر عصام ؟ .... الورقة الأخيرة فى ذكريات الشباب التى تأبى أن تسقط فى بحر النسيان ..... فقد حجز مكاناً صغيراً فى الوجدان أغلقت عليه متشبثة بأحلامها التى ضاعت فى محاولة بإقناع نفسها أن نصيبها فى الحياة قليل ... فهى لم تفعل شيئاً لتحتفظ بعصام ولم يستطع أى منهما بالبوح بمشاعره الحقيقة تجاه الأخر .... ومرت أيام الجامعة سريعة وخُطفت أحلام منال وتباعدت المسافات .... ولم يصمد الحب الوليد وسط عواصف ورياح الحياة القاسية وجرفت الأمواج بعصام فى رحلة طويلة للبحث عن عمل لائق ، لم تمنعه ظروفه وحاجته للمال أن يقبل بمهن بسيطة وغير دائمه إلى أن أنتهى به المطاف بطوق نجاة وعقد عمل بالخارج ....واختفت أخبار عصام نهائياً ولم تعد هناء قريبته تذكره ولم تجرؤ يوماً منال أن تسألها عنه خوفاً من لفت نظرها ..... وتزوجت منال بعد تخرجها بسنوات قليلة زواج تقليدى واختصرت حياتها فى مساعدة الزوج والجرى وراء لقمة العيش والسلام ، وتلاشت الأشياء الأخرى شيئاً فشيئاً .... ولكن لم تخلو حياتها من لحظات سعادة مع أولادها ... أو أكله شهية .... فرحة بنجاحهم ... ولكن يظل إحساس يتملكها بأنها قد تكون أخطأت الأختيار بعد أن أخذت الأيام شبابها وذهبت بدون رجعة !!!! ولكن لماذا اليوم تشعر بلخبطة تتملك وجدانها ؟
  ****************
ووصلت منال إلى عملها تتغندر فى مشيتها !! لا يسعفها ثقل الوزن ولا المظهر!! ولا طبيعة المكان ، فالمبنى قديم متهالك والغرف طويلة ، شبابيك على جانىى الغرف إحداها على الشارع والأخرى على ممر مزدحم بطوفان من الناس أصحاب المصالح والتى تتعالى أصواتهم بين كبار السن وسيدات وأرامل ورجال ، لا يوجد موضع لقدم داخل وخارج الغرف وإذ بمنال تفيق !!!! وتدرك أنها وسط  جمهور ، فتقف لتشير بأحد أصابعها  ويديها الأخرى تضعها فى وسطها "فهى صاحبة الكلمة العليا فى غياب هناء" وبصوت جهورى أقرب إلى أصوات الرجال "بقول أيه ... انتو شايفيين المكان ضيق على الموظفين ولو كل واحد قال حرف مش هنخلص النهاردة ! ..... وحسو بينا .. العدد ده يشفط كل الأكسجين ... ارحمونا ... وأنا مش عايزه ولا صوت ولا نفس عايزين نشتغل وإلا والله العظيم !!!!....... وأخرجت الناس من الغرفة ليقفوا فى طابور طويل عريض بالخارج مع صيحات أصحاب الطلبات وكبار السن إحنا مش فى مدرسة إحنا بنيجى نتبهدل ليه؟!  وأعطت ظهرها للكل دون أن تسمع باقى تعليقاتهم متجة للجلوس على مكتبها متجهمة الوجه غير عابئة بمن حولها ، منتظرة قدوم الغائب الحاضر فى ذهنها دائماً .... وتفكر كيف سيكون اللقاء .
  ***************
وإنحنت على مكتبها وسط الأوراق والملفات وأخذت تراجعها وتكتب الملاحظات وتصرخ وتنادى أيه ده ؟! ..  توكيل عام مش خاص مينفعش يكتب فيه الكلام ده ، وسط رجاء صاحب الحاجة دون جدوى ... وبحدة موجة كلامها للموظفيين الشغل ازاى يطلع كده ؟ وهكذا حولتها سنوات عملها مع الجمهور من فتاة وديعة إلى سيدة كباقى الموظفين فى هذا المكان لا تستطيع أن تفرق بين السيدة والرجل من غلاظة وشدة التعامل للسيطرة على العدد الهائل من الناس الذى يمر عليهم يومياً ..... وشربت كوب من الشاى للرجوع للهدوء مرة أخرى وأمسكت بالنتيجة التى أمامها وأمسكت بورقة نتيجة الأمس وتأملت تاريخ اليوم والسنة وسرحت .... وأمعنت النظر فى تاريخ السنة وأخدت تعد .... وتعد ... كام سنة فاتت من أيام  الجامعة وقلبت نتيجة اليوم مع تنهيده ... العمر كله أخرته ورقة بنقلبها وخلاص !
  ****************
ومرت ساعات النهار وعيون منال من وقت لآخر على باب الغرفة وساعة الحائط أمامها وبدأ القلق يساورها لقرب انتهاء عمل اليوم وعصام لم يحضر والزحام فى نفس الوقت كما هو،
وزاد قلقها أكثر وإذ بموظف الأمن خارج الغرفة وهو ينادى على أسماء الناس لاستلام حاجتهم وبطاقاتهم الشخصية .... ينادى عصام عبد المجيد .... عصام عبد المجيد لتقفز منال من مكانها وهى تتفحص الواقفين بنظرات سريعة ومتلاحقة ... بشوق ولهفة العودة للماضى الجميل ... فين عصام فيهم ؟ واقتربت أكثر وأكثر من باب الغرفة وهى تسمع اسم عصام يتردد ... وفجأة تتوقف عينيها ويتوقف خفقان القلب لتلمح رجل وقد شيبته سنوات الغربة والشقاء واضافت سنوات على عمره الحقيقى لتغير ملامحه تماماً .....ويستلم عصام أوراقه وهو على يقين من أن منال لم تحضر اليوم وذلك بعد أن بحث سريعاً وهو بالغرفة عن وجه منال الملائكى .... وخرج متعجباً !! كيف لمنال التعامل مع هؤلاء ؟! ............. واستمرت منال تختلس النظر إليه دون أن تنطق بكلمة واحدة وظلت تتبعه من شباك لآخر وهى مذهولة ..... هو ده عصام عبد المجيد ؟!!!! ..... مش معقول ..... وتلاشى خياله رويداً رويداً وهى تودع أخر صورة للماضى .... لتقول وداعاً .... فأنت كنت صورة من الخيال .... ولم تعد أنت كما كنت .... ولم أبقى أنا كما أنا .... فها أنت قد غادرت خيالى إلى الأبد .... فقد كنت طوال عمرى مجرد وهماً للحب ...................
الهام المليجى