الواحة

لكل مشكلة .. قبعة نرتديها

نشرت جريدة الأخبار في عددها الصادر يوم الأربعاء الموافق 10/6/ 2015 صفحة آراء حرة مقال أكثر من رائع للدكتور محمد السعدنى استلهم فكرته من كتاب " علم نفسك التفكير" ينتقد فيه الكاتب أن يكون المنطق هو السبيل الوحيد لحل المشكلات رغم إقراره بمدي فاعليته إلا أن بعض المشاكل لا يمكن حلها بالمنطق المعتاد..وفيما يلي نص المقال: 
قديماً وفي إحدي قري الهند الصغيرة، كان هناك مزارع منكود سيئ الطالع،اضطرته الظروف أن يقترض مبلغاً كبيراً من المال من أحد المرابين في القرية، كان عجوزاً قبيح المظهر والمخبر، وكانت عينه علي ابنة المزارع الفاتنة الجميلة، وكان يعرف بالطبع أنه من المحال أن تقبل به زوجاً، لذا قدم عرضاً بمقايضة تبدو غير عادلة ولا شريفة، فيها من الخسة قدر ما فيها من الإنتهازية واستغلال الظروف.عرض بأنه سيعفي المزارع من القرض إذا زوجه ابنته.ارتاع المزارع كما روعت ابنته من هذا العرض. عندها اقترح بمكر ودهاء بأن يحتكم هو والمزارع وابنته للقدر يقرر مايشاء. أخبرهم بأنه سيضع حصاتين واحدة سوداء والأخري بيضاء في كيس النقود، وعلي الفتاة التقاط إحدي الحصاتين.إذا التقطت الحصاة السوداء، تصبح زوجته ويتنازل عن قرض أبيه،وإذا التقطت الحصاة البيضاء، لا تتزوجه ويتنازل عن قرض أبيها. أما إذا رفضت التقاط أي حصاة، سيسجن والدها. 
تحلق الناس حولهم،
كان الجميع واقفين علي ممر مفروش بالحصي في أرض المزارع، وحينما كان النقاش جارياً، انحني المربي العجوز ليلتقط حصاتين، انتبهت الفتاة حادة البصر أن الرجل التقط في مهارة وخفة وسرعة حصاتين سوداوين دسهما في الكيس دون أن يلحظ ذلك أحد، ثم طلب من الفتاة التقاط الحصاة من ذلك الكيس المغشوش، طبقاً للاتفاق.
تأمل لحظة في هذه الحكاية، فنحن لانسردها لملئ وقت الفراغ ولا للتسلية، إنما نسردها لغرض معرفي أهم،وحتي نقدر الفرق بين التفكير السطحي التلقائي المتعجل، والتفكير المنطقى المدروس. ولعلك توافقني إن ورطة هذه الفتاة لا يمكن الإفلات منها إذا استخدمنا التفكير المنطقي المعتاد. ولعلك بدأت للتو تقدير عواقب ونتائج ماستقدم عليه الفتاة التي هي أمام خدعة ماكرة لم يلحظها غيرها، وأنها أمام خيارات كلها صعب ومر. وإذا ماطلبت منك أن تنصح الفتاة، فماذا عساك تنصحها؟ الأمر صعب، والدائرة تضيق من حولها. ولن أتركك في حيرة من أمرك وأمرها، ولننظر ماذا فعلت الفتاة الذكية. وهنا مكمن الفكرة، لقد أدخلت يدها في كيس النقود وسحبت منه حصاة، وبدون أن تفتح يدها وتنظر إلي لون الحصاة تعثرت عن عمد، وأسقطت الحصاة من يدها في الممر المملوء بالحصي،ثم صاحت: «يا لي من حمقاء أضعت الحصاة».وهنا صاح الجميع بأنه لا يمكن الجزم بلون الحصاة التي التقطتها الفتاة، التي جاءت إجابتها علي صيحاتهم: «ولكننا نستطيع النظر في الكيس للحصاة الباقية، وعندئذ نعرف لون الحصاة التي التقطتها». وبما أن الحصاة المتبقية في الكيس سوداء، فإن الحضور جميعاً سيقرون بان الحصاة التي التقطتها الفتاة وسقطت منها وسط الحصي علي الأرض كانت هي البيضاء، وبما أن المربي القبيح لن يجرؤ علي فضح عدم أمانته أمام الجميع ، فعليه التسليم بما فعلته الفتاة. وتكون هي بذلك قد أعفت والدها من عبء الدين وأنقذت نفسها من مصير محتوم. ولعلك تسألني ماذا حدث في هذه الحكاية؟. والرد: لقد حولت الفتاة ما يبدو أنه موقف مستحيل التصرف فيه، إلي موقف نافع لأبعد الحدود، والدرس المستفاد من القصة، هو أن هناك حلا لأعقد المشاكل، ولكننا لا نحاول الإبداع في التفكير، وأن العمل بذكاء أهم من العمل بشكل مرهق.
ماذا قدمت لكم في هذه الحكاية؟ قدمت فكرة لواحد من أهم كتب «إدوارد دي بونو» صاحب صيحة «التفكير خارج الصندوق»، وهو كتاب « علّم نفسك التفكير»، حيث ينتقد فيه الكاتب أن يكون المنطق هو السبيل الوحيد لحل المشكلات رغم إقراره بمدي فاعليته، إلاّ أن بعض المشاكل لا يمكن حلها بالمنطق المعتاد وحده، وبذلك يعطينا بديلا ً أكثر أهمية،تري ماهو وكيف ؟ إنه «قبعات التفكير الست» ضمنها كتاباً بنفس الاسم، يتناول الأنماط المختلفة للتفكير، ويرمز لكل نمط بقبعة ذات لون محدد، بهدف تدريب الإنسان علي عدم حصر تفكيره في نمط واحد من أنماط التفكير، مما يؤدي إلي الإرتباك وعدم الوصول لنتائج مثمرة، فالقبعة البيضاء ترمز للتفكير المعني بجمع المعلومات والحقائق، والحمراء خاصة بالأحاسيس والانطباعات، والخضراء للتفكير الإبداعي البناء، والزرقاء للسيطرة علي عمليات التفكير ذاتها، والصفراء ترمز إلي التفكير الإيجابي، والسوداء ترمز إلي التفكير السلبي، وهكذا، وكأنها قبعات عددها ست، علي كل إنسان أن يعرف من منها يجب ارتداءه والتفكير بمقتضاها فيما يواجهه من مشكلات، ومتي. ولقد ساهم الكتاب في تغيير نمط الفكر الغربي؛ حيث نقلهم من محدودية الفكر النقدي ذي البعد الواحد إلي نمط رسم خرائط التفكير ذات الأبعاد والألوان المتعددة التي لا تغفل أي نمط من أنماط التفكير الإنساني الخلاقة المتنوعة.
وحتي تتضح لك الصورة أكثر، أنقل لك عدداً من الأمثلة التي تمثل كل منها لوناً أو نمطاً من القبعات:مثال علي القبعة البيضاء: لدينا عدد 55 طالباً في المدرسة، 30 ولداً و25 بنتاً.مثال علي القبعة الحمراء:أنا أحب الزهور والموسيقي، أما مثال القبعة الخضراء:دعونا نبحث عن فكرة جديدة، ومثال علي القبعة الزرقاء: لدينا الآن أربعة اقتراحات، فما هي الخطوة القادمة ؟، مثال علي القبعة الصفراء:هذه الفكرة لديها عدة إيجابيات كوجود حل بديل. أما مثال علي القبعة السوداء: هذه الفكرة لديها عدة سلبيات مع قلة عدد الموارد المتاحة لدينا.
إدوارد دي بونو طبيب وعالم نفس، ولد في مالطا 1933 ودرس في جامعات كامبردجوأكسفورد، ولندن وهارفارد.وهو معروف كباحث ومؤلف في التفكير الإبداعي، يدرس حالياً في عديد من الجامعات كما يعمل مستشاراً لعدد من الشركات العالمية.
وإذا أردنا تلخيص كل ماقدمنا، فليس أفضل مما جاء في كتاب إدوارد دي بونو نفسه"الإبداع الجاد"
1992، Serious Creativity إذ يقول: «إن التفكير له أنماط ستة نعبر عنها بقبعات ست، وكل قبعة لها نوع يميز هذا النمط، وعندما تتحدث أو تناقش أوتفكر فأنت تستعمل نمطاً من هذه الأنماط أي تلبس قبعة من لون معين، وعندما يغير المتحدث أوالمناقش نمطه فهو يبدل قبعته، وهذه المهارة يمكن تعلمها والتدرب عليها. إن متعة وفاعلية التفكير لا يتحققان إلا بخلو التفكير من التداخلات التي قد تسبب التشويش الفكري الذي يعيق الوصول إلي قرار أفضل، ويعتبر التفكير البناء وسيلة لتحقيق فكر غير مشوش أومتداخل، حيث نقوم بالتركيز علي نوع واحد من التفكير فقط في الوقت الواحد والتأكد من إعطاء الانتباه الكافي لكل الأمور.»

هكذا يتقدم العالم من خلال منهج علمي للتفكير والإبداع والمبادرة، بينما نحن نكتفي من ذلك كله باستخدام عناوين لانعرف عنها أكثر من مسمياتها، فنتحدث عن التفكير خارج الصندوق، بينما نحن لم نغادره أصلاً لننظر حولنا ونتعلم، هذا إذا صح أن لدينا ذلك الصندوق من الأساس.