الواحة

الســــــــــوق

حالة من الهرج والمرج سادت المكان عقب سماع صوت ينادى " ألحقوا .... البلدية .... البلدية " وأصوات عجلات العربات وهى تُجر مسرعة للإختباء فى أحد الشوارع الجانبية مع لهث الفلاحات وخوفهم على "مشنة" الخضار وحملها إلى أقرب مدخل عمارة ... مع أصوات أصحاب المحلات  تلملم بضاعتهم المكدسة والمحتلة الأرصفة بالكامل ...... وإذ بشارع السوق خالى من الناس والباعه الجائلين ليذوب الزحام والضجيج إلا من أصوات جهورية لحملة البلدية تقترب أكثر وأكثر .... لتأخذ ما تبقى فى الشارع "لوحة معدنية ، قفص قديم ، كرسى مكسور ، ميزان ...... " ونظرات الباعة المختفية والمتحفزة لمغادرة الحملة أرض السوق ....... وإذ بصوت هند القادمة من أحدى القرى القريبة من هذه المدينة تهمس لجارتها زينب التى أقنعتها بشراء خضار لبيعه فى السوق بعد تنظيفه ووضعه فى أكياس وكان هذا أول يوم لها وهنا دبت هند على صدرها وقالت هما مين  دوول !!!! 
*************************
فى اليوم التالى لهند فى السوق وبجوارها ابنها محمود تارة يعبث فى لَم كل ما يقع عليه عينيه على الأرض وتارة يحاول التسلق من حجرها الملىء بالخضار إلى رأسها لشد طرحتها والجلوس فوق أكتافها وتوسلاتها له لتركها تعمل ...... وإذ بكوبين صغيرين من الليمون يحمله رجل فى صنيه قديمة "أتفضلوا أشربوا " وتلتهم زينب كوب الليمون فى نفس واحد 
زينب : أشربى يا هند صاحب القهوة اللى ورانا ربنا يكرمه ، عشان يحمينا وتقعدى هنا ليكى كوباية شاى وساعات ليمون بـ 5جنيه فى اليوم .
هند : تضرب بكف يديها على خدها ... اليوم 5 جنيه ... ليه؟!!! هو أنا هيطلعى كام ؟!
زينب : زى ما أنتى هتاكلى .... غيرك لازم ياكل 
وصمتت هند مجبرة على الأمر الواقع الذى تكتشفه ....
ولم يمر وقت حتى قام أخر وهو يوجه كلامه لزينب "البصل ده يخلص بسرعة ... الحاج عايزه دلوقتى ... هزت زينب رأسها بالموافقة وسارعت بالبدء فى تقشير البصل وهى تقول لهند يلا معايا بسرعة نخلصه للحاج فريد الجزار بيعمل الحوواشى بيه ..... وبتنهيده الكاره ترد هند... ده للحماية !! .... ياسلام أنتى خدتى على الجو بسرعه .
***********************
و بنفس التفاصيل بدأت هند يومها الثالث بالنزول من عربة الكارو وهى تحمل محمود على أكتافها  ومعها أخريات يحملن بضاعتهن لبيعها فى السوق ومع زيادة توافد الناس على السوق يزادد الضغط على هند وهى منهمكة فى تنظيف الخضار مع حركة ابنها الصغير ورغبته دائماً لحمله أو الجلوس على رجليها ...... وتمد زينب يديها لهند و  تقول وهى تشير لأحد المطاعم "أخطفى رجلك عايزين ناكل طعمية ومعاهم كام رغيف وأوعى تنسى الطرشى ..."  وقفت هند مثل ناس كثيرة واقفة حول طاسة الزيت المشبع بالسواد فى انتظار قلى الطعمية لتتلقفها أيادى كثيره غير عابئة بسخونتها .... وتنتظر هند مرة أخرى فى صراع للوقوف فى المقدمة ، وتنجح هذه المرة فى الفوز بكام قرص طعمية لتلتفت خلفها معلنة انتصارها هذه المره ...... فقد تبخر من حولها خارج المطعم ..... وإذ بحالة صخب وهيصة وناس تجرى ببضاعتها هنا وهناك ..... تسمرت هند فى مكانها للحظات ، أدركت بعدها أنها حملة جديدة للبلدية .... واندفعت هند وهى تلتفت يميناً ويسارً بحثاً عن زينب وسط الهيصة واللمة واختلاط الحابل بالنابل 
زينب : أتأخرتى ليه
هند : المطعم كان زحمة قوى
هند : هى البلدية بتيجى السوق كل يوم 
زينب : لأ هما كل كام يوم يظهروا وبعد كده يختفوا 
زينب : أنا كنت مش عارفة أشيل الحاجة كلها لوحدى 
هند : الحمد لله .... ديه كانت تبقى مصيبة لو خدوا الخضار منى ... أسدد تمنه منين ؟!
هند : بعد لحظة صمت وهى تشاهد البلدية .... محمود .. محمود فين ؟؟؟؟
زينب : أيوه محمود ... كان واقف هنا .. 
وإذ برجفة تمتلك هند وهى تردد ضنايا فين وهى تنادى محمود ... محمود تاه فى السوق ... ويزادد صراخها وهرولتها فى كل اتجاه وتجرى زينب ورائها "هتلقيه إن شاء الله... ده صغير تلاقيه هنا ولا هنا "
**************
وبأقدام غير قادرة على حمل جسد هند الوهن الهزيل والتى تكاد تزحف على الأرض بعد أن خارت قواها ...... وإذ بلمة من المارة لتقترب هند وتسمعهم .... يرددون الحمد لله الولد كويس..... لتقفز بقلبها قبل جسدها .......... لتضمه إلى صدرها وهى تبكى وتتأمل ملامحه وهى تعلم أنه ليس ابنها .... وتقول  فين محمود ؟!!! محمود ضاع !!!! .... ووسط طاحونة سائقى التوك توك وهم يتكالبون على الزبائن..... وعجنة بشرية لا حصر لها .... تنادى هند أنت فين يا محمود ، لتسأل الماره وهى تنتحب من كثرة البكاء  أبنى  ... ابنى صُغير ... وتغرق هند بين إحساس اليأس من العثور على ابنها.... لتفيق على أمل العثور على محمود ....  وتستمر فى السير كالقطار الذى فقد قضبانه ، يترنح فى جميع الإتجاهات .... تهرول من شارع لأخر  ..... وتزداد خطوتها سرعة  فينك يا محمود .... وزينب تحاول اللحاق وهى تناديها أن تتوقف .... إلي أن يخفت صوتها رويداً ... رويداً ..... ...... وإذ بالضابط قائد حملة البلدية يأتى إلى السوق مترجلاً ليتحسس ويرى بنفسه السوق على حقيقته ...... حائراً كيف يطبق القانون على العشوائية ..... ويعيد الهدوء لسكان الشارع من طوفان الباعة الذين استوطنوا الشارع ، ويفحص ويتمحص فى وجوه الماره والبائعين ...... وإذ بدفعة صغيره من هند للضابط وهى تمسح دموعها بطرفى طرحتها وبنظرة منكسرة تستمر هند فى رحلة البحث عن محمود وهى تتمتم ..... كان نفسى آه ..... آه كان نفسى ..... بس ترجعلى ......

الهام المليجى