الواحة

اثنين × واحد

بعد أن انتهى من إعداد الغداء وغسل كافة الأوانى ووضع كل شىء فى مكانه المعتاد ، خرجالأستاذ "حسن" مسرعا ليرتدى ملابسه ، وكان قد أخبر ابنتيه مساء أمس عن عزمه بالسفر "للمنصورة" ، ولكنهم أبدو عدم رغبتهم فى السفر معه فوجد فى رفضهم هوى فى نفسهلأن شيئا ما جعل الأستاذ حسن هذه المرة فى الإحتياج والرغبة أن تكون رحلته هذه خارج الإلتزامات اليومية الروتينية المملة أحيانا ، ولكى يستطيع أن يكمل مشواره مع الحياة كان عليه الهروب ونسيان دائرة همومه اليومية .
وبالفعل أخذ الأستاذ حسن سيارته يشق طريقه بين شوارع وطرق لا يحكمها منطق أو عقلوكيف تمكث كثيرا فى مقعد متخشبا منتظرا الفرج وفض الإشتباك بين البشر والمركبات وبالكاد استطاع أن يصل إلى أول الطريق السريع .. فتح نافذة سيارته وعدل من جلسته متلهفا لقاء الأحباب والأهلوالأصدقاء وقد اعتاد ذلك مع سفره دائما إلى المنصورة فهى الحياة التى عاشها . . الطفولة والشباب . . الأهل والأصدقاء .ويتذكر الأستاذ حسن كيف أتخذ قراره بالسفر والإقامة بالقاهرة بعد أن فقد الأمل فى إيجاد فرصة عمل مناسبة لإبنته الكبرى "منى" بعد تخرجها من أداب قسم انجليزى , وبعد رحله بحث قصيرة عن شقة ذات إيجار مناسب لدخله انتهى به الأمر فى السكن فى ضاحية من ضواحى مدينة نصر وكيف يسروسهل ذلك لإبنته الوسطى " مها" أثناء دراستها بإعلام جامعة القاهرة
وبعد رحلة بحث مضنية لم تجد "منى" ابنته أى فرصة عمل إلا فى شركة طيران دولة "البحرين" . وبعد فترة قصيرة من التردد وحساب الغربة ومواجهة الحياة فى بلد لا تعرف عنه شيئا ، ولرغبتها فى مساعدة الأب ولو قليلا هو ما عجل بموافقتها على السفر , وبعد مرور عام من التحاقها قامت بعمل قرض من الشركة لتساعد والدها فى شراء سيارة صغيرة مستعملة تساعدهم فى الإنتقالات فى القاهرة والسفر الدائم إلى المنصورة .وظهرت أهمية هذه السيارة عندما التحقت ابنته الصغيرة " مروة" بكلية اقتصاد وعلوم سياسية جامعة القاهرة وكان يجد متعة وسعادة يوميا بتوصيل ابنته والعودة مرة أخرى للمنزل والقيام بكل ما يتطلبه البيت من جهد ووقت وتعب لتلبية احتياجات الأسرة المكونه من 5 أفراد ، الأستاذ حسن هو كل شيء وأى شيء ..وهكذا هى حياة الأستاذ حسن أيام تمر . . سنوات تتلاحق . . والأحلام تجرى قدامة يريد اللحاق بها . . وكأنها سباق ماراثون. . حالما بالوصول والفوز نهاية السباق ..وهذا هو حال الأستاذ حسن بعد بلوغه سن المعاش وانتهاء حياته الوظيفية كمأمور ضرائب فى الضرائب العقارية والتى تعطى مرتبات ضئيلة بالمقارنة بمأموريات الضرائب الأخرى , وقد قام العاملين بها بعدة وقفات احتجاجية أيام النظام السابق مرات ومرات ولم يجدوا آذاناً صاغية وظل الوضع كما هو إلا أن وصل الأستاذ حسن سن الستين تاركا سنوات طويلة من ضيق اليد وبادئا فى مرحلة أخرى من حياته أكثر وأكثر ضيقا .. لكن مع الأستاذ حسن الإنسان الطيب، البشوش ، المثابر ، الراغب فى الحياة مهما واجهته من صعاب فهو أهل لأى مشكله تواجه ..والقاهرة بالنسبة للأستاذ حسن هى مجرد محطة يعيشها مضطرا لظروف بناته ومستقبلهم إلى أن تنتهى مهمته ليعود لبلده وبيته وحياته
وها هو يبدأ رحلته لينعم بالهدوء والسكينة وتتسلل إليه مشاعر السعاده والرضا رويدا رويدا .. فرحلته هذه شبه أسبوعيه ويعتبرها أكسير للحياة واستراحة لفترة قصيرةمن الأعباء والمجهود الذهنى والبدنى ليواصل ويتواصل مع حياته للقيام بواجباته ، ولهذا يختلس ساعات معدودة كل بضعة أيام منذ وفاة زوجته والتى التقى بها فى أول يوم عمل لها فى مصلحة الضرائب ، وكيف كانت جميلة المظهر حلوة الكلام طيبة القلب ، فكانت لها طلة أو هالة تخطف عينيك عند رؤيتها ، ولهذا أدرك فى الحال الأستاذ حسن أنه أكتمل مع نصفه الآخر فالأرواح تتلاقى قبل العقول وهذا كان أول اللقاء . . فالإرتباط . . فالزواج . . فحياة استمرت مايقرب من 15 عاما يسودها مشاعر الحب و الود والتفاهم . . إلى أن اختطفها الموت مبكرا تاركه ورائها ثلاثة فتيات أكبرهم لم تكمل المرحلة الأعدادية ، وقلب جريح يدمى على فقدان من أحب فقد خالفت ما حلموا وتعاهدوا عليه إلى نهاية المشوار .. . نعم تركته . . وأخذت الحلم والسعادة والترابط . . . وتركت فجيعة ألم الفراق وثقل وحدة ستدوم طويلاً طويلاً . . ولكن هذه هى الحياة لا تعطى كل ما يتمناه المرء ، وقد فرض الواقع والقدر على الأستاذ حسن أن يكمل المشوار وحيداً بلا ونيس أو شريك . و كان عليه الوقوف على قدميه مرة أخرى ليكمل ما قد بدأها سويا . .وهنا أصر الأستاذ حسن أصراراً على مواجهة الحياة وحده وتحمل مسئولية الأسرة وقام الأب وحده بدور الأم والأب فى آن واحد . . وكان يستقظ مبكراً ليعد وجبة الإفطار لبناته فى المدرسة ، ويجهز ملابسهم ، ويقوم بتصفيف شعر صغيرته ، وتوصيلهم إلى مدرستهم ، والذهاب إلى عمله إلى أن ينتهى ويخرج مسرعا للعودة ببناته إلى المنزل بعد شراء ما يحتاجه لإعداد الطعام ولكن بعد حساب مرتبه بالجنيه وتوزيعه على أيام الشهر وهذه مشكلة مشاكل كل بيت كيف تدير عدة مئات من الجنيهات مع قائمة طويلة عريضة من المتطلبات ..
ولكن الأستاذ حسن لا ييأس ولا يعجز فهو ذو شخصية مرتبة منظمة .. وبعد العودة إلى المنزل يقوم بالمزاحليشع جو من البهجة على بناته . . وسؤالهم عن يومهم كيف كان ؟ ووسط ضحكات البنات وشجار البنات مع بعضهن أحياناً ، يطلب منهم عمل الواجبات والمذاكرة فى أثناء انشغاله فى المطبخ ووسط ذلك تنادى واحدة عليه ليشرح لها ما لا تفهمه ، إلى أن ينتهى من إعداد الطعام، لتدخل كل واحدة منهم لتستريح قليلا ، لتستأنف المذاكرة مرة أخرى ولكن مع الأستاذ حسن هذه المره فى مكان واحد ليشرح ويذاكر لواحدة ويتركها ليكرر ذلك مع الثانية وهكذا إلى أن يفرغ منهم تماما ليذهبوا إلى غرفتهم ليناموا..ويقوم الأستاذ حسن بالترتيب وتنظيف البيت كما تفعل كل أم ..وكان يفعل ذلك دون كلل أو ملل ، ولم يعبأ لحظة واحده من كلام شقيقته المكرر دائما " ليه معزب نفسك كده؟1 إتجوز وخلى حد يشيل معاك . . . البنات بكره يسبوك وهتكون كبرت ومحتاج حد معاك . . . بس فى الوقت ده مش هتلاقى حد يجوزك" وهي نفس الأسطوانة التى يسمعها دائما من أصدقائه وزملائه فى العمل ..ولكن الأستاذ حسن كان فى واد آخر فقد أخذ قراره ولم يشأ أن تسرق سعادته ببناته وهو يراهم يكبروا يوما بعد يوم ، وبعد أن نجح أن يعوضهم حنان وغياب الأم . . . نعم غياب الأم فهى العضو الغائب الحاضر دائما فى حياة الأستاذ حسن ..وأخيرا وبعد عدة ساعات من رحلته من القاهرة للمنصورة وصل إلى بيته وما أن دخل تملكه مشاعر واحساسيس بالفرح والراحة وكأن روحه قد إرتدت إليه . . فكل شيء كما هو . . الأثاث كما هو . . لون الجدران كما هو . . السجاجيد كما هى . . كل شيء قد رسمه هو وزوجته كما هو . .
وها هو كل ركن من أركان المنزل قد زحف عليه القدم ولكن شيء ما يشدك للمكان وكأنك تسير فى طريق يتلاطم الهواء والسقيع بك لترتجف أطرافك وفجأة ترتمى فى ماء دافىء . . نعم هو دفىء بيت الأستاذ حسن والروح الطيبة والود والحب الذى يجمع ساكنيه !! وبرغم قدم عمارة الأستاذ حسن والتى تقع فى حى متوسط المستوى ولكنها مطله على نيل المنصورة.. وأخذ يسلم على كل ركن فيه ليطمئن قلبه أنه يوجد مكان شاهد على حياته وذكرياته والتى يحلم يوما ما سيعود إليه .. فتح الأستاذ حسن شرفة المنزل المطلة على النيل. . المكان المفضل له هو وزوجته و الجلوس في نهاية يومهم ليمتد بهم الوقت إلى منتصف الليل ..وقام الأستاذ حسن بتنظيف الشرفة ودخل ليعد لنفسه كوبا من الشاى ويضع شريطا فى الكاسيت ليسمع قصيدة آغدا ألقاك للشاعر الكبير الهادى أدم والتى شدتها أم كلثوم ليسمعها وهى تغنى
هذه الدنيا كتاب أنت فيه الفكر..هذه الدنيا ليال أنت فيه العمر
هذه الدنيا عيون أنت فيها البصر..هذه الدنيا سماء أنت فيهاالقمر
ودخل الأستاذ حسن الشرفة ممدداً ذراعيه ليترك الهواء يخلخل كل جزء من جسده لتمحو همومه وتعبه للحظات ثم جلس على الكرسى باسطاً ساقيه أمام منضده صغيره أمامه ليستمتع بساعة غروب الشمس وهى تسحب أشعتها الذهبية من فوق سطح النيل ليغمض عينيه ويذهب إلى عالمه الآخر والذى لم يشأ أن يتركه أو يخرج منه فقد آن الأوان للفارس أن يستريح قليلا ..وها قد برهن لنا الأستاذ حسن أن من ذاق السعادة عليه أن يحتفظ بها حتى وإن بعدت عنه وأصبحت من الذكريات . ونشفق ونأسى لمن لم تمنحنه الحياة السعادة ولو للحظات ،ولم يعرف طعم لها.
الهام المليجى
إدارة العلاقات العامة