خواطر ايمانية

من مكتبة الشيخ الشعراوى

عرف فضيلة الإمام الجليل محمد متولى الشعراوى ببلاغة كلماته وبساطة أسلوبه وجمال تعبيره وقد إستطاع من خلال تقديم خواطره فى تفسير القرآن الكريم الوصول إلى أكبر شريحة من المسلمين فى جميع أنحاء العالم العربى ... وكلما أطل علينا الشيخ فى إحدى تسجيلاته القديمة الملائكية يرتدى جلبابه الأبيض المتميز و يتكئ على أريكته ممسكاً بإحدى يديه كتاب الله والأخرى يشرح بها تهافتت عليه قلوبنا وحلقت حوله عقولنا من فيض ما فتح عليه الرحمن من فتوحات ربانيه وفى هذا العدد نحتفل بذكرى مرور قرن وعام على مولده بعرض إحدى مؤلفاته كتاب معجزة القرآن مسلسلاً وفى هذا الكتاب الذى بدأه الشيخ بفصل عن حرية الإنسان يتساءل الشعراوى : كيف يكون القرآن نزل للأحياء ... بينما هو منهج يدعو إلى حياة قادمة ... نقول إن الله سبحانه وتعالى جعل الحياة الدنيا مجرد إختيار للآخرة .. لأن الله الذى كرم الإنسان ونفخ فيه من روحه , وجعله خليفة فى الأرض , يريد له حياة تليق بهذا المخلوق , وبتفضيل الله له , وبتسخير الله سبحانه وتعالى لكل ما فى السموات والأرض للإنسان
حركة النمو
الله سبحانه وتعالى هو خالق هذا الكون 00 هو خالق الحياة فيه 00 ولكى نفهم معنى الآية الكريمة: (حَتّىَ إِذَا مَا جَآءُوهَا شَهِدَ عَلَيْهِمْ سَمْعُهُمْ وَأَبْصَارُهُمْ وَجُلُودُهُم بِمَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ*وَقَالُواْ لِجُلُودِهِمْ لِمَ شَهِدتّمْ عَلَيْنَا قَالُوَاْ أَنطَقَنَا اللّهُ الّذِي أَنطَقَ كُلّ شَيْءٍ وَهُوَ خَلَقَكُمْ أَوّلَ مَرّةٍ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ) [سورة: فصلت – الآية 20: 21]
00 لابد أن نعرف معنى الحياة و المقصود بها 00 وهل هى الحياة بمفهومنا أم أن الحياة فى الكون بمفهوم آخر يختلف تماماً عن مفهومنا 00نحن نفهم الحياة على أساس أنها حس وحركة00 الإنسان فيه حياة لأنه يحس , ويعقل و يتحرك00و الحيوان فيه حياة أيضاً, لأنه يحس ويتحرك 00 أما النبات فهناك من يقول : أن فيه حياة لأنه ينمو ويكبر و يثمر ويذبل 00 فيه نوع من التغيير و الحركة00 حركة النمو00إذاً ففيه نوع من الحياة00أما الجماد فى مفهومنا فليس فيه حياة , لأنه لا يحس ولا يتحرك ولا ينمو 0
وأجناس الكون أربعة 00 أدناها الجماد, وتنتهى حياته المنظورة لنا بخاصة النمو, وهى أولى خواص النبات00 لذلك نجد عدداً من الشعب المرجانية وهى جماد تنمو فى البحر00 أما النبات فيبدأ بخاصية النمو التى إنتهى عندها الجماد وينتهى بخاصية الحس التى يتميز بها الحيوان 00فتجد بعض النباتات إذا لمستها أحاطت بك , أو أغلقت أوراقها, مثل ما يطلق علية الناس- الست المستحية – 00وهكذا تنتهى الحياة فى النبات عند الحس00 وتبدأ الحياة فى الحيوان بالحس و الحركة00 وتنتهى بشئ من التمييز, وهو من صفات العقل00 فتجد أن أرقى الحيوانات , وهى القردة, تستطيع –إلى حد ما أن تقوم ببعض الحركات التى فيها نوع من التمييز00وهو ماتبدأ به حياة الإنسان 00 فلا يوجد إنسان ليس له عقل مميز00وتنطلق مظاهر الحياة فى الإنسان مع العقل إلى آفاق بلا حدود00 وتظل ترتقى وترتقى مع إرتقاءات العقل إلى ما شاء الله 0
هذه هى مظاهر الحياة كما نفهمها نحن00 فكل جنس من أجناس الكون – جماد كان أو نبات أو حيوان أو إنساناً – بيدأ عند النهاية التى يصل إليها الجنس الذى قبله00 ولكن هل مفهومنا فى الحياة صحيح ؟ وهل الحياة هى الحس و الحركة فقط؟ وهل خلق الله الأشياء فى الدنيا جامدة0ثم يجعلها يوم القيامة تنطق وتتكلم ؟ فالحياة فى الدنيا, وهى التى يشارك فيها المؤمن والكافر,قصارى ما تعطينا الحس والحركة0
فهل هذه حقيقة مظاهر الحياة؟ أم أن هناك مظاهر أخرى وأسراراً أخرى فى الكون لا ندرى عنها شياً00 فى معنى الحياة يحكمنا القرآن الكريم00 ماذا قال الله سبحانه وتعالى00 إقرأ قول الحق: ( لّيَهْلِكَ مَنْ هَلَكَ عَن بَيّنَةٍ وَيَحْيَا مَنْ حَيّ عَن بَيّنَةٍ) [سورة: الأنفال - الآية: 42] إذا تدبرنا فى هذه الآية نكون قد عرفنا من القرآن أن الهلاك مقابل للحياة أو ضد الحياة 00 هناك حى وهناك من هلك 00أى لا حياة له 00يأتى الحق سبحانه وتعالى فى آية أخرى ليقول (كُلّ شَيْءٍ هَالِكٌ إِلاّ وَجْهَهُ) [سورة: القصص - الآية: 88]
00ومادام الله سبحانه وتعالى قال كل شئ سيصبح هالكا00إذاً فكل شيئ فيه حياة00أو مايقال عنه شئ فيه حياه 00لأن الحق سبحانه وتعالى يقول عندما تأتى القيامة سيهلك كل شئ فيه إلا وجه الله00إذاً فقبل ساعة القيامة يكون كل شئ فيه حياة 00وطبعاً قبل ساعة القيامة يكون هناك جماد ونبات وحيوان وإنسان00 فإذا أضفنا إلى ذلك قول الحق سبحانه وتعالى (وَإِن مّن شَيْءٍ إِلاّ يُسَبّحُ بِحَمْدَهِ وَلَـَكِن لاّ تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ) [سورة: الإسراء - الآية: 44]
00يكون كل مافى الكون مسبحاً لله00 يقول بعض العلماء أن كل شئ يسبح تسبيح دلالة على الخالق 00 نقول لهم لو أنه كان تسبيح دلالة نكون قد فهمناه00 ولكن الله يقول:( وَلَـَكِن لاّ تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ) 0
00إذاً فنحن لا نفهم هذا التسبيح ,إذا وصلنا إلى هذه النتيجة نكون قد عرفنا أن كل شئ فى الكون له حياة00 وهذه الحياة تناسب مهمته00 إذاً فالأشياء التى نراها أمامنا ساكنة لا تنطق ولاتتكلم00هى فى الحقيقة تنطق وتتكلم ولكننا لا نسمعها00وفى ذلك يقول الحق سبحانه وتعالى (أَنطَقَنَا اللّهُ الّذِي أَنطَقَ كُلّ شَيْءٍ) [سورة: فصلت - الآية: 21]0
مفهوم الحياة
هنا لابد لنا من وقفة طويلة عند مفهوم الحياة00فنحن نفهم الحياة على أنها حس وحركة مرئية لنا00ولكن الحقيقة أن هناك حساً وحركة فى الكون مرئية لنا 00وهناك حس وحركة غير مرئية لنا00 ولنأخذ الجماد أولاً باعتباره أكثر الأشياء التى يعتقد العلماء أنه ليس فيها حياة فى منطق الإنسان00 وسأضرب هنا أمثلة بسيطة جدا حتى نكون جميعاً عارفين بما يحدث0
نحن حين نريد أن نمغنط قضيباً من الحديد00 ماذا نفعل 00 نأتى بمغناطيس ونمر على قطعة الحديد فى اتجاه واحد عدة مرات ونظل نقوم بهذه العملية لفترة حتى تتم مغنطة قطعة الحديد00 ماذا حدث ؟ أولاً دخلت المغناطيسية إلى قطعة الحديد غير الممغنطة00 كيف حدث ذلك ؟ نحن لم نرشيئا, ولكننا شهدنا أثر المغناطيسية على قطعة الحديد التى أتينا بها فأصبحت تجذب الأشياء00 هذه واحدة00قوة معنوية ظهرت- لم نر شيئاً يتغير أمام أعيننا00 ولكن مع ذلك فقد تغير شئ ما فى قطعة الحديد التى أجرينا عليها التجربة 00 بحسث أصبحت ممغنطة بعد أن كانت غير ممغنطة00 فإذا ارتقينا بالتجربة, وجئنا ببرادة الحديد فى أنبوبة اختبار00 ومررنا عليها عدة مرات بالمغناطيس فى إتجاه واحد00 نجد أن البرادة تتحرك وتتبدل حتى تصير فى اتجاه واحد 00ذرات القضيب الحديدى قامت بنفس الحركة00 ولكن فى داخل الجسم الصلب00ونحن ننظر إلى هذا الجسم لم نلاحظ فيه أى حركة00ولكننا حين جعلناه جزئيات صغيرة بحيث أصبح برادة حديد00 رأينا الحركة والتبدل الذى حدث 00ولكن السؤال ظل مستمراً 00 وهو كيف دخلت المغناطيسية,وأخترقت هذا الجسم الصلب القوى وهو الحديد00 وأحدثت فيه حركة حتى تحولت ذراته وتجمعت فى اتجاه واحد00 هذا لم يصل إليه العلم حتى الآن00
ولكن إذا كان الحق سبحانه وتعالى قد كشف لنا من علمه ما جعلنا نرى برادة الحديد وهى تتحرك فى أنبوبة اختبار00 وتتشكل وتتبدل00إنما ليرينا أن الشئ الساكن و الجامدوهو الجماد 00يمكن أن تكون فيه حركة مستمرة00 ولكننا لا نراها لأنها فوق طاقة أبصارنا00إذاً فالجماد فيه حركة ولكننا لا نراها0
وقبل أن نمضى فى هذا الحديث00 لابد أن نبين أن وجود الشيئ مختلف تماماً عن إدراك وجودة00 فقد يوجد الشيئ ولاندركه مثل ملايين المخلوقات فى الكون التى تتحرك وتتكلم وتعيش, ولاندركها بأبصارنا , ولانسمع أصواتها00 فالجن مثلاً تعيش وتتناسل وتتحدث مع بعضها البعض ولها حياة ولكننا لا نراها00 والملائكة مثلاً موجودة تؤدى مهمتها فى الكون, ولكننا لا نراها00
هذه قضية هامة لابدأن نتحدث عنها لنفهم معنى الحياة فى الجماد 00 وهى قضية غيبية00 فوجود الملائكة و الجن أخبرنا به الله00 وأخبرنا بأننا لا نراهم فى قوله تعالى عن الشيطان: (إِنّهُ يَرَاكُمْ هُوَ وَقَبِيلُهُ مِنْ حَيْثُ لاَ تَرَوْنَهُمْ) [سورة: الأعراف - الآية: 27]0
00إذاً فهناك من يرانا ولا نراه00 وهذه كما قلت قضية غيبية00وقد يأتى أى إنسان ويقول لك أنا لااؤمن بالغيب00 ولا أصدق أن هناك مخلوقات لا نراها0
نقول له : ان رحمة الله سبحانه وتعالى بعباده جعلته يضع فى الكون قضايا حسية00 تقرب إلى أذهاننا صور الغيب رحمة بعقولنا00فالنأخذ من العالم المادى مايقرب لأذهاننا صورة عالم الغيب00إذا أخذنا الجراثيم نجد أنها تعطينا الصورة 00 كيف؟ إن الجراثيم مثلاً كانت موجودة فى الكون تؤدى مهمتها00وكلنا نرى آثار هذه المهمة فى أعراض كثيرة 00ولكننا لم نكن نرى الجراثيم التى تسبب هذه الأعراض00 ثم تقدم العلم الذى كشفه الله للبشر00واخترعت الميكروسكوبات التى تكبر مئات المرات00ووصلت إلى إنها تكبر الصورة ملايين المرات00فماذا حدث؟
رأينا هذه الميكروبات00 ورأيناها بصورتها البشعة00مخلوقاً عجيباً غاية فى الدقة00وفيه حياة ويتوالد ويتكاثر ويأخذ أشكالاً مختلفة00بل أن الميكروب فيه حياة متكيفة00بمعنى أنه بعد أن تستخدم ضده دواء معينا يتكون من جسده ما يقاوم هذا الدواء,ولا يجعل له فاعلية00 ولذلك فلابد من فترة إلى فترة 00أن يغير الأطباء الدواء, لأنه لم يعد مؤثراً على الميكروب فقد تحصن ضده00 ويلفتنا هذا إلى دقة خلق الله سبحانه وتعالى00فالله خلق فى هذه المساحة الصغيرةالتى لاترى بالعين المجردة00 وربما لاترى00 بمجهر صغير00خلق فى هذه المساحة الدقيقة غاية فى الدقة مخلوقا له حياة كاملة00فيها غذاء, وفيها تناسل, ولها دورة حياة متكاملة0
و السؤال هنا:هل وجد هذا الميكروب أولا, ثم أدركنا وجوده00أم إنه لم يوجد إلا ومعه إدراكنا لهذا الوجود؟ والجواب طبعاً أنه وجد أولا وكان يقوم بمهمته فى الحياة قبل أن ندرك وجوده00 ولولا أننا أدركنا آثار هذه المهمة 00وبدأ العلماء يبحثون عن سبب هذه الآثار00 ماأدركنا هذا الوجود00 ولكن عدم إدراكنا لوجود هذا الميكروب لم يكن يعنى أنه غير موجود0
الوجود . . وإدراك الوجود
إذاً فالوجود شئ وإدراك الوجود شئ آخر يختلف تماماً00 وهذا ينطبق على أشياء كثيرة فى الكون لاتعد ولا تحصى 00 فكأنه قضية عامة وليس قضية خاصة00إذا وضعت نقطة الماء أو نقطة الدم تحت الميكروسكوب فستجد بها أشياء عجيبة00كائنات حيه تتحرك وتعيش وتتناسل00وتؤدى مهمة فى الحياة دون أن نعرف عنها شيئاً أو ندرك وجودها 00فإذا اتجهت بالتليسكوب إلى السماء رأيت نجوماً لم تكن تراها بعينك المجردة00هل هذه النجوم التى رأيتها بالتليسكوب كانت موجودة00أم إنها خلقت ساعة أدركت وجودها؟ الجواب الذى يوافق عليه كل علماء الأرض أنها كانت موجودة تؤدى مهمتها فى الحياة دون أن تدرك أنت وجودها, ولما تقدم العلم الذى كشفه الله للإنسان فى الأرض واخترعت آلة التليسكوب التى تقرب الأشياء00أصبح من الممكن رؤية هذه النجوم لأن الآلة الجديدة أعانت العين وجعلت رؤية هذه النجوم فى مقدورها0
إذاً فهذه النجوم أدت دورها ربما لملايين السنين دون أن تحس بها , أو تعرف شيئاً عن وجودها أو حياتها00وإذا كان وجود الشئ كما ثبت علمياً مما قلناه- على سبيل المثال – وليس الحصر00إذا كان وجود الشئ مختلفا عن إدراك وجوده00فإذا حدثت عن شئ لاتراه فلا تنكر وجوده 00وإذا كان المتحدث هو الله سبحانه وتعالى فالشئ ثابت الوجود كأنك تراه0