الواحة

أبيض. . . . وأسود

أخذت يديه ترتجف وهو ممسك بقضبان زانزانته بعد علمه بوفاة أمه ، وجلس فى أحد أركان زانزانته المظلمه والدموع تنساب من عينيه اللامعتان تملئه الذكريات عن دور أمه فى حياته والتى قامت بتربيته بعد وفاة والده "رئيس قبيلته" وهى الزوجه الثالثة تاركا " 9 "أطفال من زوجاته الأربعة ، وأصرت الأم على إلحاق "مانديلا" بالمدرسة الإبتدائية وإكمال تعليمه حتى المرحلة الجامعية ، ويتذكركيف تفتحت عينيه ليرى أن لونه الأسود جعله من "العبيد" أى عليه ألا يأكل أو يشرب أو يستخدم المواصلات التى يركبها "السادة البيض" ، هنا أدرك مانديلا أنه واحد من هذا الشعب الذى يعيش على الفتات وكل دورهم فى الحياة هو خدمة هولاء السادة البيض منذ طلوع الفجر إلى الليل فى مناجم الذهب والمصانع وأعمال البناء وتربية الحيوانات والمزارع ليذهبوا أخر الليل إلى أسرهم وهم لا يملكون ما يسد أفواههم ، وهكذا كان حال السواد الأعظم من الشعب الذى يتضور جوعا وعطشا فى بيئة شديدة الفقر والمرض . وأخذ مانديلا يسأل أمه عما يحدث حوله فحكت له أن بلادهم وقعت تحت الأحتلال "الأفريكانو" وهو حكم البيض والذى يمثلون 20% من السكان ، وشددت على كتفيه : أنا نفسى يابنى يكون مصيرك غيرنا وأنا شايفه فيك روح التمرد على الواقع فإعمل طول حياتك على تغييره وخلى عندك عزيمة إنك توصل فى النهاية .ومرت سنوات وحين بلغ سن الشباب انضم إلى حزب "المؤتمر الوطنى" المناهض للتفرقة العنصرية ليصطدم بواقع بلاده ويرى القساوسه والصحفيين والأطباء السود "عملاء" يساعدوا البيض على قمع وتعذيب الشعب فى مقابل أن يعيشوا حياة أفضل قليلا ، فهنا تأكد لمانديلا أن الهدف الذى يسعى إليه ويعمل على تحقيقه هو ورفاقه هو القضاء على التفرقة العنصرية فى بلاده وتحقيق الحرية والاستقلال والعيشة الكريمة . وتعرف مانديلا على "وينى" وشاركته طموحه وأحلامه وتزوجها وسارت معه للمطالبه بالحرية والاستقلال إلى أن قبض عليه بعد 4 سنوات من الزواج بتهمة التدبير للاضراب فى البلاد . وفى عام 1964 حكم على مانديلا بالسجن مدى الحياة بتهمة التخطيط لعمل مسلح والخيانة العظمى . تذكر مانديلا كل هذا وهو قابع يبكى على وفاة أمه وعجزه على وداعها ، ومرت الأيام عليه ثقيلة طويلة لا يفرق بين يوم وأخر بل بين عام وأخر ، فكان غذائه الجوع أو حساء الذره البارد المتعفن ولما طالب هو ورفاقه بالخبز قال لهم السجان " الخبز ضار بالإنسان" ولكن أخذوا يستمدوا قوتهم من الهدف الذى سجنوا من أجله فأخذ مانديلا يضع علامات فى زنزانته ليستطيع أن يحسب الأيام والسنوات وأحيانا تصل إليه خطابات من زوجته وبعض أقاربه وكان يحسهم دائما على مخاطبة العالم الخارجى لشرح قضية بلاده وأظهار مدى الظلم والقهر فى وسائل الإعلام لكسب تعاطف المجتمع الدولى لدرجة أن أخبار مانديلا أصبحت من أهم الأخبار المتداولة فى وكالات الأنباء العالمية، وفى الوقت نفسه أكمل مانديلا دراسته الجامعية للأداب والقانون . وفى عام 1969 تلقى خبر وفاة أبنه فى حادث سيارة وسجن زوجته وفقد ابنائه لسند الأم والأب ، فأخذ مانديلا يضرب رأسه بكل قوة فى حائط الزنزانة فقد كان الحدث أقوى من أن يتحمله بشر . . . هزمه العجز والحرمان من تربية أطفاله ورعايته لهم وتعليمهم وممارسة الحياة الطبيعة التى خلقنا لها . . . انكسر وضعف ووهن وهذا ليس ندما على قراره بالنضال والكفاح من أجل الوطن ولكن الاحساس بأنه ليس وحده من يدفع الثمن ولكن اسرته أيضا تدفع ثمن فادح لغيابه عنهم وعدم تواجده نهائيا فى حياتهم لسنوات طويله ليس لها آخر . . . وبعد فترة قليلة ظهر فى حياته "برام فيشر" المحامى ابن أحد المسئولين وقرر الدفاع عن مانديلا ورفاقه ، وطلبمقابلتهوقال مانديلا " أنا بناضل من أجل شعبى ووطنى أما انت فاذا دافعت عنى سوف تحارب قومك البيض ! ! ليه عايز تإذى نفسك ؟! " فرد فيشر: "ان الله خلق الانسان ليعيش حرا ولا يستعبده أحد ، فالحرية للناس جمعيا وأنا هنا أقف لإقامة العدل ورفع الظلم" وأصر فيشر على تحدى قومه وأستمر فى الدفاع عن مانديلا ورفاقه وكشف الأستبداد والظلم الذى يتعرضون له إلى أن حدث وأعطى السجن حذاء أصغر من مقاس قدم مانديلا فطلب تغييره فسمع منهم عزمهم على بتر أصابع أرجله لتكون مقاس الحذاء . . وما أن سمع فيشر بذلك فقام بنشر الخبر على جميع وكالات الأنباء العالمية وأخذت دول العالم فى تكثيف أخبار ما يحدث فى جنوب افريقيا وما يحدث لمانديلا ورفاقه .وأصبح فيشر عدوا لقومه وتم سجنه وأفرج عنه بعد فتره لإصابته بالسرطان فى السجن وتوفى بعدها ليترك جرح غائر فى قلب مانديلا لفقده السند والصديق وأحد الأعمدة الرئيسية المساندة لقضية بلاده . وهنا انتقل مانديلا هو ورفاقه من مرحلة أظهار قضيتهم للعالم كله إلى الكفاح المسلح وظل هكذا سنوات طويلة طويلة . . . . وفى عام 1985 عرضت الحكومة على مانديلا إطلاق سراحه مقابل وقف المقاومة المسلحة إلا أنه رفض العرض وقال " لم يدر بخلدى قط أننى لن أخرج من السجن يوما من الأيام ، ولا أعلم أنه سيجىء اليوم الذى أسير فيه رجلا حرا تحت أشعة الشمس والعشب تحت قدمى ، وأن النظام الظالم لا يمكن إصلاحه ولكن يجب التخلص منه " ، وفى عام 1990 قرر رئيس الجمهورية فريدريك ويليام دى كليرك إطلاق سراحه والحاصل فيما بعد هو ومانديلا على جائزة نوبل للسلام عام 1993 . وخرج مانديلا من السجن بعد أن قضى 27 عاما ليكمل مسيرة الكفاح بالمطالبة بالحرية والعدالة لشعبه وإنهاء حكم الأقلية للأغلبية إلى أن تحقق له ما أراد ، وتحت ضغوط من رفاقه قبل أن يكون أول رئيس أسود يحكم جنوب افريقيا ولمدة واحدة من 1994 إلى 2000 . وفرحت زوجته بخروج بطلها الأسطورى ولكن ها قد زحف الشيب عليهما . . .وسرق منه عمره كما سرق منها وأصبح كهل عجوز فى الواحد والسبعون من عمره أمام بقايا إمراة لا تعرفه . . . . . . فأخذت وينى تبحث عن مانديلا الذى أحبته . . . فلم تراه وتناست من هو مانديلا أنه انسان عادى . . حلم ببلد حره وكان لا يملك شيئا لتحقيقه ولكن بالإراده والتضحية استطاع تحقيق ليس حلمه فقط ولكن حلم البسطاء . . الفقراء . . والمعدمين . . فى حقهم فى الحياة الحرة الكريمة . ولم تستطع وينى أن تعيش مع انسان عليها أن تقبل عيوبه قبل أن تقبل مميزاته فلم تستطع وكان الطلاق هو الحل الوحيد . . . وبدأ مانديلا حكمه وأمامه طريقين إما التشفى والانتقام ممن عذبوه أو الارتفاع وطوى صفحة الماضى كلها ، فكان الاختيار هو مصلحة بلاده واستقرارها فوق رغبة الانتقام من عنصرية البيض ، وبذلك جنب بلاده الدخول فى حروب أهلية . . وتطلع إلى المستقبل وتصالح مع الماضى ووضع دستور لبلاده قائم على المساواة والعدل والحرية لكل الشعب يتساوى الأسود والأبيض فى الحقوق والواجبات وقال "أن إقامة العدل أصعب بكثير من هدم الظلم فالهدم فعل سلبى والبناء فعل إيجابى والنظر للمستقبل والتعامل بواقعية أهم بكثير من الوقوف على تفاصيل الماضى المرير ". وبعد إنتهاء سنوات حكمه للبلاد اعتزل الحياة السياسية وانسحب فى هدوء ليقضى باقى عمره فى جنى ثمار كفاحه الطويل .. ويقضى ايامه بين القراءة وتأليف الكتب فى بيته الريفى الصغير يستنشق نسيم الحرية وها قد تم عامه الثالث والتسعون راضيا سعيدا برحلته الطويلة فى الحياة متصالحا مع نفسه ومع الآخرين فقد أخلص لبلاده فرفعه شعبه على الأعناق ، وأصبح اسطورة ليس فى بلده فقط بل اسطورة نضال ورسالة سلام للعالم كله . الهام المليجى إدارة العلاقات العامة والإعلام