الواحة

رمضان كريم

حاول "عمر" أن يقاوم النوم الذى يغالبه ، فهو يعلم أن اليوم هو الجمعة وكل سكان العمارة أجازة . . . وطلباتهم لا تنتهى . . وأسم "عمر" يتردد طوال النهار على الرغم أنه أصغر أولاد عم “على “ بواب العمارة ، ولكن كل السكان يحبون عمر لذكاءه وسرعة إنجاز الطلبات وقناعاته حتى وإن لم يعطوه أى مقابل .....وبأدب وإبتسامة لا تفارقه رغم قسوة الحياة ويكون رده "خلى أنا معملتش حاجة " ..... عمر ذات الأثنى عشرعاما وقسمات وجه مع لون خمرى تشعر معها بالملامح المصرية الأصيلة. . . وهو لم يكمل شهادته الإبتدائية وأصبح واحد من المتسربين من التعليم فى هذه المرحلة ليساعد والده بعد أن تزوج أشقاءه ومنهم من أقام فى بلدتهم "بالفيوم" وأخرين فضلوا الإقامة فى "القاهرة" ليكونوا بجوار مصدر رزق أوفر . . . . . وكان على وأسرته أحد النازحين من الفيوم للقاهرة وكان ينتقل ما بين عمارة وأخرى . . ومع حدوث أى خلاف . . يطرد البواب دون أدنى شعور بأى ذنب ، لتستمر رحلة بحث عن مكان سواء فى نفس الحى أو أحياء أخرى . . والبوابين بأنفسهم يساعدون بعضهم بعضا فى عملية البحث والإستدلال ....
وبعد دقائق قليلة من إستيقاظه سمع عمر مدام "نجوى" تنادى عليه فخرج مسرعا من الغرفة وقال لها أيوه يامدام نجوى . . فنظرت له من الدور الأول وقالت "أنا نازله دلوقتى عشان نشترى شوية حاجات " . . . وأغلقت مدام نجوى باب الشقة وسمع خطواتها على درجات السلالم المعدودة وقال "هو لسه فى حاجات تانيه . . دحنا اشترينا السوق كله " ضحكت نجوى وردت "انت عارف إن ولادى جايين على الفطار . . والعزومة فى رمضان شكل تانى ، وبعدين أنا بحب أشترى الفاكهه والعصائر فى نفس اليوم " ..........وعادت نجوى ومعها عمر يحمل فى كل يد عدة شنط يكاد يمشى بالعافية ، ودخل المطبخ ليضع مابيده ......فزاغت عينيه على الأصناف وأشكال الطعام المختلفة...... فربطت نجوى على كتف عمر وقالت " أيه رأيك ..هيعجبهم الأكل ؟ رد عمر بسرعة ..هيعجبهم ونص .....يامدام نجوى العمارة كلها عارفه أنك أحسن واحدة تعمل أكل ميه ...ميه"
ونزل عمر ليجلس على باب العمارة مع أبيه وبجواره الراديو يسمع عبد المطلب يغنى "رمضان جانا ....وفرحنا به ....بعد غيابه ... وبقاله زمان . . غنوا وقولو . . شهر بطوله ......أهلا رمضان " وبعد ما يقرب من ساعة ، نظر عم على وابنه عمر إلى الأستاذ مصطفى وزوجته وقال صباح الخير يا أستاذ مصطفى . . صباح الخير يا مدام . . يلزم أى خدمه .........أبتسموا وقالوا شكرا ياعم على أحنا بنسلى يومنا ونتمشى شويه ونشترى حاجتنا بنفسنا ....... فقال على لأبنه "شوف ربنا حرمهم من الولاد ... بس ماشاء الله راضيين حمديين شاكريين ربنا ....وبعد ما طلعوا على المعاش وشقتهم على طول ناس داخله خارجه .... طول عمرهم كرمه ويستقبلوا قرايبهم واصحابهم أحسن استقبال " ومال عمر برأسه على أبيه وقال "الدينا حر قوى والواحد صاحى عطشان .... فأمسك عم على برأس عمر بين كفيه وقال : "هو انت يا واد عايز تاخد ثواب ......ببلاش" وسمع عمر أمه تنادى عليه فقال لها وهو لم يبرح مكانه أيوه عايزه أيه ... قالت ياواد تعالى هنا عشان تسمعنى .... روح اشترى .... ولم تكمل كلامها وقاطعها عمر على الفور .. أنا تعبان روحى اشترى انتى ... فقالت ليه ياواد .. ده انت طالع نازل طول النهار .. آشمعنى أنا فهز رأسه وهو يبتسم ... يعنى عايزة تكملى عليا ....
وذهب ليشترى لأمه ما تحتاجه للإفطار وهى أشياء بسيطة وعلى قد الحال .... وعند عودته لمح عمر أبيه يحمل شنط من سيارة الأستاذ مجدى للدور الرابع وقال لنفسه "ربنا يستر . . . ده الأستاذ مجدى طيب بس مراته شديده حبتين ........... والنهارده عشان عزومة عيلته تلاقيها مطلعه عينه........... وساعد أبيه فى حمل الشنط وأستقبلتهم زوجة مجدى بنظرة استغراب . . إيه ده كله . . هو أحنا عازمين حى . . فأبتسم مجدى وقال عشان كل حاجه تكون عندك . . وأنت براحتك اللى عايزاه أعمليه .... وشكر مجدى عم على وأبنه عمر وهو يعطيهم عشرة جنيهات وتركوه وهم سعداء بأن الأستاذ مجدى أعطاهم بزيادة شوية . . . . وفى الدور الثالث رأى حسام أبن الأستاذ محمد عمر وقال له " مش ناوى يابنى تكمل الإبتدائية . . أنت تقدر تاخدها من منازلهم . . يعنى مش هتروح المدرسه . . وأى حاجه بابا يساعدك فيها . . . . بس كمل"........وأستمر عمر فى النزول على سلالم العماره .. . إن شاء الله . . أن شاء الله . . ولم يلقى كلام حسام أى صدى عند عمر . . وهو يحدث نفسه . . اشمعنى انا هكمل . . ده كل أخواتى ماحدش فيهم بيقرأ ولا بيكتب . . دنا حلو قوى كده ............ ودخل عمر الغرفة عند أمه وقال لها : الواحد شئيان طول النهار . . أعملى أكل كتير . . عايزين نشبع . . . فمصمصت شفاها وقالت منيين ياحسره !!!!!!!!!!!
ونادى عم على عمر ليضع خرطوم المياه فى الحنفية فكل يوم جمعة لازم يمسح سلالم العمارة . . وجلس الأب والأم وعمر وفى ساعة صفا ليلتقطوا أنفاسهم فى مدخل العمارة ورطوبة الأرض بعد المسح تلطف من جو الصيف والصيام . . . . قبل هجوم الأولاد والأحفاد بعد العصر ليتجمعوا على الفطار .......... وعند قرب الساعة الخامسة صعد عمر لشقة نجوى ليساعدها فى تحضير السفرة حسب اتفاقهم من قبل . . وقالت له أنت جيت فى وقتك . . خلاص مفيش وقت أنا هبتدى "أحمر" وأنت تقف على الحوض تغسل فقال لها : اللى إنتى عايزاه يا مدام ..... وخرج عمر بعد ذلك لتحضير السفرة وفرشها مع نجوى . . ثم دخل لمسح المطبخ ومضى الوقت سريعا لا يخلوا من مزاح وخفة دم لعمر .
وقالت نجوى : أنا عمله الأكل اللى بيحبه أبنى من ايدى أنا بس . . . فرد عمر طبعا مش أمه . . وأكملت ربنا يخليله مراته وأبنه . . أكيد أتعود على أكلها . . . رد عمر بس أكل الأم حاجه تانيه اسألينى أنا !!!! فضحكت نجوى وأنت تعرف غيره ياعمر ؟! فضحك عمر بصوت عالى ولم يسمعوا مع ضجيج المطبخ جرس التليفون ........وخرجت نجوى لترد وقالت : أيوه ياحبيبتى . . مش هتقدرى تيجي . . ليه خير . . أيوه طبعا لازم تتعب منك ويجلها دور إسهال ..... طفلة فى السن ده نايمه فى التكييف وملبساها خفيف ورجلها وبطنها مكشوفه . . حرام عليكى ..........إنزلى وديها لأى دكتور عشان يديها مضاد حيوى . . . وألف سلامه عليها . . أيوه طبعا هسلملك على أخوكى وخالك لما يجيوا .....مع السلامة...... ودخلت نجوى غرفتها لتلحق صلاة العصر ....ورن جرس التليفون مرة أخرى فرد عمر . . أيوه مدام نجوى موجودة بس بتصلى ... استنى مدام نجوى خلصت ....أيوه ياحبيبى ...خير!!!!!! ليه ؟! حصل حاجه .....بس....... دنا كنت عمله كل الحاجات اللى بتحبها......... هى اتخنقت معاك ....طب مش عايزه تيجي .......هو الموضوع أكيد كده.......مع السلامه......... وجلست نجوى على كنبة الأنترية بجوار التليفون وأخذت منديل ورق لتجفف جبينها والقت برأسها على ظهر الكنبة ...... وظل عمر واقفا لا يدرى ماذا يفعل أو ماذا يقول ........ هكذا يفعل الأبناء بدون إكتراث لتعب وعناء الأم فى انتظار أولادها ليجتمعوا معا يومين أو ثلاثة طوال رمضان ؟!!!!! ليس هذا بكثير على أم وحيدة بعد وفاة زوجها ....... فهمس عمر بصوت حزين ... مدام نجوى أنا نازل .... فلم ترد عليه ...وتركها وهو حزين لحزنها .
وها قد قرب مدفع الأفطار وخلت الشوارع تقريبا من المارة .... وبدت الأنوار من واجهة العمارة مضاءة. . . . . الدور الرابع الأستاذ مجدى مع والديه وأخوته والكل سعيد باللمه الحلوه فيما عدا زوجته التى تحاول أن تدارى ضيقها قليلا من تكاليف العزومة .......والدور الثالث شقة الأستاذ محمد وابنه حسام مع أفراد أسرتهما فى حركة سريعة من تحضير السفره . . . وإعداد مشروبات رمضان . . . وقراءة القرآن . . . ومشاهدة التليفزيون ............. الدور الثانى الأستاذ مصطفى وزوجته مع اصدقاءهم وذكريات ونوادر تحكى من الماضى البعيد القريب فى ذاكرتهم فى جلسة تغمرها الود والصفاء فى ربيع عمر لم يتبقى منه إلا قليلاً..............
والدور الأول نجوى على باب شقتها تنادى على عمر ... عمر أطلعلى ... جرى عمر بسرعة ...خير يامدام نجوى ..... تعالى شيل الصنية ديه نزلها عندكو . . كل أنت وأخواتك ...... مش معقول !!!!!!!!!!!! كل ده لينا .... ليه ......... ممكن ولاد حضرتك يجيوا بكره أن شاء الله ........ ضحكت نجوى . . بقولك خدها قبل ما أغير رأيى ..... فضحك عمر وجرى بالصنية الثقيلة على السلالم قائلاً "كله يوسع لعمر ........... سُكى على الأكل بتاعك يا أما ..... أكل مدام نجوى وصل ..... ووضع الصنية وسط لمه . . وزحمة . . وأفواه جائعة ..... أيه ده كله ..... وسعادة لا توصف أمام طعام لم يروه من قبل !!!!!!!!!! ولم تغلق نجوى باب شقتها إلا بعد سماع تعليقات أسرة عمر ..... وحين أمسكت بالباب لتغلقه إذ بخطوات بطيئه تقترب منها وقالت أهلا .... يا حبيبى وهو يلتقط أنفاسه ... أنا جيت وجعان بقالى يومين عايز أشوف سفرة نجوى عمله أزاى ..... وأغلقت نجوى باب الشقة وهى سعيدة بقدوم شقيقها للإفطار معها .... ونظرت إليه وهى تهز رأسها وكأن الزمن لم يمر ... ولم يمضى وهى هى نفس النظره .... ونفس الود ودفء المشاعر منذ أن كانو صغارا ..................
**الهام المليجى